رسالة إلى جنية الغربة

فجأة عشقت الليل
عدت إلي عادتي القديمة
كتاب أنيق وسيجارة مطفأة وفنجان قهوة لا أشربه
أكتفي باستنشاق الرائحة
أنتظر السائل الأسود حتّى يبرد
أمزجه بالوسكي
أترشّفه
أنا الخمسيني الضحوك
أجلس بوقار كهل حقيقي
لا أفعل شيئاً
أجلس دون خوف وأفكر
كيف يمكن لوهن القلب أن يقتلني فجأة

أشعر بالرهبة تعبرني كنسمة
الوقت يخونني بوقاحة
لم أكن واعياً بخطورة الموقف
وأنا أدخن سيجارتي الأولى
وأنا أشرب كأسي الأول
وأنا أواعد فتاتي الأولى
وأنا أكتب نصّي الأول
وأنا أرتكب الخطيئة الأولى
وأنا أحبك الحب الأول

كنت في العشرين
لم أكن موهوباً
لم أكن ذكياً
لم أكن شجاعاً
كنت طفلاً في العشرين
عرفت حياته تغيرات صادمة
عرف قلبه رجة قاتلة
بكى وحاول استيعاب الحياة كما هي
لو كنت مكان الجد الذي نهره عن تقبيل حفيدته ذات يوم
وصفعه صفعة جرّدته من كرامته
كنت نصحته نصيحة أبوية
حين تحاصرك وحدتك اللعينة
فكر في البقاء على قيد الحياة
قلمك وربك وحبك الأول وجرعة الدّواء
مخرجك للوجود ومدخلك للفناء
كنت أنقذته من عناء التشرّد على أرصفة المدن القاسية
كنت أنقذته من وحدته ورسمت له طريقاً مغايرة

وحيداً أقف عند حاجز الغربة
أسمع لحن النّاي الأبدي
لحن الأسطورة يربطني بالسحاب
خضرة عينيك تربطني بالوجود
أغزل ما تبقّى من غربتي على منسج القلب
أكتشف فجأة أنها كل ما تبقّى من خيوط العمر
بحثت لها عن اسم وصورة ورائحة
أردت أن أخلّدها
لا فائدة
شيطان الرحيل مختبئ في شراييني
هذا البدوي الأخرق لا يترك أمامي فسحة للتفاوض
وحدهما عيناك تعيدانني إلى أرضي
فكيف تكون أرضي إن لم تكوني؟

أهديك رسائلي
من الأرض البعيدة
يا حب الزمان البعيد
أرض الغرباء والمنبوذين والمشنوقين
هذا الرجل الذي فقدك ذات حرب
يكتب لك في كل ليلة قصيدة
يروي لغرباء حانة الرعد قصّتك الخالدة
يا سيّدة العشق الأبدي
أتركي قلبه يرتاح
نبضه يذبل منذ ألف عام ولا ينطفئ
في كل ليلة يقف أمام الذاكرة
يتلو صلاة العودة ولا يعود
لي شكّ عميق يخامر الرّوح
إلى أي رقعة ينتمي هذا الجسد
إلى أي فكرة ينتمي هذا العقل
المارد القومي يذبحني
معارك النفط والجغرافيا تهدّد البقاء
كيف لطائر البرّّ اليتيم أن يفكر في الهرب؟

الجواسيس في كل مكان
المضاربون يرفعون الطلب
محاط بالأسهم من كل جانب
أمراء الحرب ضخّوا دمي في بورصات العواصم الكونية
من قال أنني أريد مجداً يسجله التاريخ؟
لا أريد أن أكون رقماً في حسابكم
ولا عاشقاً في سرابكم
ولا جنرالاً في معارككم
أريد فقط أن أحلم
حلماً كاملاً
بسيطاً ومعلناً
جميلاً وساحراً
حلما حقيقيّا
هو الحقيقة في ذاتها
لا أوهام صفاتها
أريد كل شيء
كتاباً وقلماً ومحبرة
مبيتاً لائقاً للطلبة
أرضاً للفلاح
يوم راحة لعمّال المناجم
جندياً يحمل ناياً بدل السلاح
موسيقى تأجج الذكريات
فسحة من النكات
بيتاً يؤوي الرجل الغريب
قبلة من ثغر الحبيب
قهوة ساخنة في الصّباح
ساعي بريد دون رقيب
سلّماً يرفعني للسماء فأخاطب الله وأرسمه

رفاقي الأعزّاء
أودّعكم
لقد وقّع الباب العالي مرسوم النفي
لي قبلات الوداع والدموع
ولكم من بعدي الخراب
أعدّوا ما استطعتم من الأمل
ارقصوا على بقايا الحطام
تجنّبوا إغراء الكلام
إني أسمع أصواتاً تناديني إلى الغياب
ولا طريق أمامي سوى إتباعها
أذكركم دون ضغينة
عندما يغفو القمر
لا تشربوا نخبي ونخب المفقودين
لا تنسوا أن تواسوا فتاتي الرقيقة
أخبروها أنني كنت جباناً حتى تكرهني
أخبروها أنني كنت أخونها
كباقي الرجال يخونون وصايا الحب
أما في عيد ميلادها
فأرسلوا لها باقة ورد أحمر
وإياكم أن تغازلوها
فقط راقصوها صامتين
راقصوها بشغف كما كنت أفعل
ولا تخبروها بأنني علمتكم سرّّ الخطوات
أنا أرحل

أفتح قلبي لإمكانيات مغايرة
فرح يأتي بغتة
حزن بطعم المفاجأة
وجع الأغنيات
اشتياق لأشياء البارحة
لبيرم الاسكندرية وبيروت فيروز وتونس الكافي
لعشق المراهقين على مدارج المسرح البلدي
في ساعات سكري الدافئ
أغني كطفل
أتذكر بقايا الحكايات
أبحث عن انطلاقة جديدة
أراجع حماقات الماضي
أستدعي الرب
أحدثه كصديق
أحدثه عن وجعي وحبي وزلاتي
عن خطي المتأرجح بين العشق وتفاهة الموقف اليومي
أحدثه عن العيش في العارء
عن الكبت الجنسي
عن ألم القلب
عن حمّى أطفال الفقراء
أحدّثه عن جرائم الضواحي البسيطة
عن إنجازات الدّولة الدّموية
عن وطني وأمراء الحرب
عن فُتاة أحلامي الذي أدخره لغد أفضل
أحدّثه عن البكاء الصامت للرجال
عن سكر المنفيين في حانة الرعد

رجل أعمى يصرخ في وجه الغائبين
من منكم يريد البكاء؟
في الغابة القطبية معبد يعلّم فيه البكاء
أطلال وساحات حمراء تغذي كآبة الطيور المهاجرة
للدمع طعم آخر حين يمتزج بخمر الحقد
من منكم يعرف كيف يموت الوجد
في ليل ربيع صوفي؟
من منكم يعرف رسم الحد
وروح الخط الكوفي؟
في مثل هذه الساعات من غفوات الليل المسروقة
حين يموت الحب بداء الرّب
أشعر أنني مبتذل وحزين
كل بذاءة هذا العالم لا تشبع غيضي
كل جنون الدنيا لا يحرّك شوقي للرقص
من منكم يريد البكاء؟
ليجلس إلى طاولتي
يذرف في لحظات صدقه ما أمكن من دموع
أمّا أنا فسأكتفي بالحقد
إنه طعم الحب حين يمتزج بالألم
لحظة انفتاح الكلم
حين يخط القلم توقيعي على قصيد يحترق
حين يضيع الحلم وشهاب الليل يخترق كبد السماء
مازلت أذكر قول المعلم حين وجّه خنجره الصدئ إلى قلبي
وعوى كذئب : “كن حاقداً فالحقد سيّد المعلّمين”

تضيع الأيّام
سطور نكتبها بأيدينا ولا نحسن قراءتها
نخوض معارك عابرة
نجتر أحلاماً واهية
نطلب أملاً
نفتح كلماً
نطلق رصاصاتنا دفعة واحدة
نتفرّغ بعد الهزيمة للبكاء
أمقت منفياً
هنا في الضواحي القريبة من العاصمة
أشتاق لوطني
أناديه ليلاً لينام عندي
أتركه صباحاً كعاهرة
أحزم حقائبي وأرحل
أخفي ذعري في محفظة الجيب
أسير على طريق الغياب
العراء مر والهزيمة أمر والإنتماء ترف الأغنياء
هنا في الضواحي الجنوبية للعاصمة
أشعر بالغربة
لم يعد في الوطن مكان يقبلني
في وطني حيث للدمع نهر
وللدم نهر
وللنفط نهر
وليس فيه للحب نهر
وطني أين يموت الأصيل

صلاة الغائبين ترتفع
يا فارس القوم الجائع
أنصت لدعائي
جرّ أعقاب سيفك ومخطوط تعويذتك وانصرف
عصر المعجزات ولّا وانتهى
هذا الجمهور لا يحتاج إلى قضيّة
هذا الجمهور لا يحتاج إلى نبيّ
أتعبني السير في أعقابك
سأغادر المركب وأغوص في الطوفان
انتظر قيام المسيح بمفردك
لن تبصر عورة الملك
ما دمت تنتظر معجزة الخلاص
ستبقى نبيّاً مزيّفاً
نبيّاً تائهاً بلا رسالة
يا فارس القوم الجائع
اترك أعقاب سيفك ومخطوط تعويذتك
اتبع نسيم الجنوب العامر في صدرك
زندك هو الصّديق الصّديق
أترك المناحات والوعيد واستعد للقتال
تمرّ سهام الغدر
قدّم لها صدرك وابتسم
يغازلك الموت في كل ركن
أرقص وابتسم
طالع عدوّك دون خوف
سر في طريقك وابتسم
افتح ذراعك للهوى
اعشق كل نساء الدنيا
أطلق عنانك
واجه عدوّك وانتقم
يا حاملاً حلم العدالة فوق ظهرك، لا تنم
ضمّد جراحك بالتراب واستقم
اختر عدوّك
اختر معركة تليق بك
أقتل العدو في داخلك
القضيّة لن تنتصر بموت الجلاد
وإنما حين يتوقف المضطهدون عن لعب دور الضّحيّة
حين يتوقفون عن الموت دون أسباب منطقيّة
حين يمتصّون الحقد والغضب الأبدي
يحولونه وعياً يجتاح الشوارع الخلفيّة
يا أنبياء الأرض المتعبة
كونوا فرساناً حالمين
انزعوا رداء الحكمة المبجّلة والفضيلة المؤجّلة
أغلقوا المعابد والمساجد وأقيموا الصلاة في قلب المعارك
وجهوا الرصاص لياهوذا المتنكّر بينكم
علّموا الإنسان كيف ينكر دور الضّحيّة
علموا الإنسان كيف يكون نبيّاً

حين ارتفع حاجز الغربة
انتهت صلاتي
نسجت لحناً عربي التكوين
قلبي يؤلمني
الحب يراجع أوتار شراييني
غاب ضوء القمر في عيني
وحين ذكرتك
ذكرت التراب والذكريات والبقاء
قلت أبكي لأنساك
أنحت من طين الشتاء جناحين لصيف العمر
أنا في الهنا وأنت في الهناك البعيد
أين ينسج النور سلامه