لم اكتب بعد روايتي و لا يبدو اني سأكتبها قريبا. لذلك كلما وقعت رواية بين يدي كتبتها من جديد من زاويتي ككاتب فاشل لحد الان و من عادة الكاتب الفاشل ان يكون ناقدا جيدا و هذا ما اطمح اليه الان.
لذلك فمناسبة قرائتي لرواية بنميلود الحي الخطير وفرت لي فرصة اعادة النظر في كثير من اسس حرفة الكتابة التي مازالت عندنا لم ترق لان تكون حرفة.
قرات مؤخرا رواية الحي الخطير للشاعر و الكاتب محمد بنميلود
الرواية التي احدثت صدى واسعا لدى كثير من القراء الفيسبوكيين و كذلك لدى جمهور الرواية عموما بحكم انتشار اسم كاتبها على الصعيد الافتراضي و كذلك لكون الرواية عالجت موضوع الهامش و اوغلت فيه بشكل كبير. كل ذلك اضاف للرواية عناصر قوة ميزتها عن باقي الانتاجات المغربية المحدودة اصلا. لكن كل هذا لا يعفي الرواية من وجود اختلالات في بنية النص الروائي…
تبدأ الرواية بمراد السلاخ الراوي/البطل. المعتقل داخل زنزانة فردية. امضى خمس سنوات و مازالت امامه سنوات اطول. يخبرنا بكل شيء عن نفسه و عن سبب اعتقاله. يرجع الى طفولته و يغوص اكثر في ذاكرة حيه الخطير.
يتطور الحكي عموديا ذهابا و ايابا عبر الزمن. فيما يتطور افقيا عبر الاحداث العنيفة التي رسمت حياة البطل. لكن ما يجعل للحكاية سببا او اسبابا لتروى هي وعي غائم لدى البطل بمفهوم الصراع الطبقي. صراع بين طبقة مهيمنة تملك كل شيء و تعيش الرفاه و بين طبقة تقاوم للبقاء على قيد العيش. و كذا نضج في مفهوم الخير و الشر حيث تجاوز البديهة و صار بفعل فاعل. اضافة الى ثورته على باقي المفاهيم البسيطة الاخرى. كل هذا خلق لنا بطلا يرث الى حد ما هواجس راسكولنيكوفية
مرت الرواية بثلاثة مراحل المرحلة الاولي تتمثل في الصفحات العشرين الاولى التي اكد فيها الكاتب موهبته و قدرته على انتاج نص روائي. حيث يقدم لنا مراد السلاخ نفسه على طريقته الخاصة:
“في جيبي الان علبة سجائر تحوي سبع عشرة سيجارة، عليها ان تكفيني طيلة هذه الواحد و العشرين يوما التي سأقضيها كاملة في هذه الزنزانة الانفرادية، بمتوسط سيجارة واحدة فقط في اليوم تقريبا دون ساعة شمس و دون كلام او اختلاط، و دون أي شيء قبل العودة الى زنزانتي العادية“
المرحلة الثانية هي مرحلة التيه حيث فقدت البوصلة و اختلط لدي الراوي مع الكاتب مع البطل حيث ان الراوي مراد السلاخ داخل السجن يتميز بثقافة محترمة نظرا لقراءته العميقة لكتب خاله مجيد يصف لنا واقعه بلغة عالمة و لديه رؤية كمثقف لكنه بعد ذلك ينتقل الى الحديث بلغة اخرى هي لغة الزناقي و اسلوب ركيك لا ادري سببه هل ذلك راجع الى رغبة الكاتب في تقريبنا من ذلك الوسط الحقير . ام هو خزان الكاتب قد نفذ من اللغة.
المرحلة الثالثة هي مرحلة ملا الورق بالحكي دون مبرر فقط لاضفاء مزيد من الخطورة عن روايته حتى تستحق تسمية الحي الخطير لكني كقارئ لم اجد مبررا لكل تلك الوقائع ولا لكل تلك التفاصيل المكرورة :
“لكن عبد المجيد طلب ان يصطحب سليمة الى كوخه ملتزما امام القوادة بعودتها صباحا و بعدم حدوث اي مشاكل. كانت القوادة تعرفه جيدا و تعرف زوجته المرحومة و ابناءه الدين غرقوا و تعرف كل شيئ عنه فهو جارها منذ سنوات طويلة،“
“كي لا يثيرا انتباه الفضوليين سبق عبد المجيد سليمة بامتار متحفزا اثناء مشيته و تبعته كأن كل واحد منهما يقصد سبيلا. ترك لها باب الكوخ مفتوحا، تلفتت يمينا و يسارا ثم دخلت و أغلقت الباب“
لم تصمد لغة بنميلود امام تسلسل احداث الرواية و لم تنتقل رؤيته الى مستويات اعمق و اعقد. اما شخصيات الرواية فلم يصبها ادنى تطور على مستوى الزمن الروائي. و لم تفتك لنفسها اي حيز نفسي داخل وجداني او مكاني داخل الصفحة فالاحداث و صراع الشخصيات كانت تماما كما نقرأ في الجرائد السيارة. اذ هناك غياب فادح لاي لحظة ذروة او على الاصح هناك فشل في الارتفاع بالاحداث الى مرحلة الذروة. هنا يتبادر الى ذهني مقطع صغير لمحمد شكري عن مقتل اخيه
“أخي يبكي، يتلوى الما، يبكي الخبز أراه يمشي اليه، الوحش يمشي اليه. الجنون في عينيه. يداه اخطبوط. لا أحد يقدر أن يمنعه. أستغيث في خيالي. وحش. مجنون. امنعوه يلوي اللعين عنقه بعنف. أخي يتلوى. الدم يتدفق من فمه“
و هذا مقطع لبنميلود عن اعتقال خاله
“كنت صغيرا جدا حينها على فهم ما يحدث، و لم اره قط في حقيقة الامر بل في خيالي ….
او هذا عن تاثر امه الشديد بخطف خاله
” كان تعلق امي به كبيرا جدا خصوصا كلما أحبطها ابي أكثر او صفعها او سبها أو باتت بلا عشاء، تحتضن صورته و تبكي. ثم تحدثني عنه راجية من الله أن اكبر بسرعة لاحميها مثلما كان يحميها.”
ناهيك عن وهن الخيط الناظم داخل الرواية و كذا جفاف الاسلوب الذي ضيعت علي كقارئ الانقطاع عن العالم و الغوص في عوالمها.اذكر اني لما قرأت الاعمال الاولى لكتاب غبت عن عالمي الحقيقي منذ الصفحة الاولى الى الاخيرة. صنع الله ابراهيم في تلك الرائحة ابرزهم.
يكمن سر نجاح الكاتب في جذب انتباه القارئ هو تلك القدرة الدقيقة على اختيار الايقاع الجيد للرواية و المحافظة على تناسقه و عدم الاخلال به على طول الكتابة. تماما مثل الايقاع المنتظم للحضرة الكناوية او الجيلالية.حيث ان المصاب بحال الجلالة يكون مغيبا تماما عن الوعي و يستطيع القيام بافعال خارج المنطق من اكل لزجاج و طعن نفسه. و لكي يستمر المصاب في حالته دون اذية نفسه على صاحب الايقاع و هو هنا الموسيقي الذي يضرب الهجهوج او التارة ان يحافذ على نفس النغمة و الا كان الموت او الاذى نصيب المصاب .
ان القارئ حين يتعرض لنشاز اثناء القراءة تكون اصابته ابلغ من اصابة المممسوس بالارواح و وفاته تكون معنوية بامساكه التام عن فعل القراءة.
ان الكاتب بنميلود تعمد في اكثر من مرة اقحام وجهة نظره و اعطى اسبابا و نتائج لمعادلة ليس بالضرورة ان يؤديا الى بعض لدرجة انه خاطر بكشف نفسه داخل مختلف مراحل السرد من خلال تركيب الاحداث و صوغها بطريقة تؤدي الى ثنائيات تخلق احداثا داعمة و مفسرة لوجهة نظره من قبيل الفرد في مواجهة الدولة او المافيا مقبل النظام الحاكم او ارهاب الاشخاص في مواجهة ارهاب الدولة مما يطرح سؤال الانفلات الشخصية و الاحداث من الكاتب و هاته مسالة ضرورية حتى تتحقق للرواية شخصيتها و هذا مالم يحصل لرواية الحي الخطير. ان الكاتب هنا اراد ان يقوم بكل الادوار الناشط السياسي و المغامر و صاحب وجهة و نظر و غير ذلك. مما يجعلنا نستذكر مقولة كونديرا ” دور الرواية هو اكتشاف ما يمكن للرواية وحدها دون سواها ان تكتشفه“
ان رواية الحي الخطير خلقت حالة نقاش مهمة في الاوساط الادبية. تمتلت في كم كبير من المقالات تناولت العمل بكثير من الاحتفال دون وجود اثر لنقد يتطرق الى النواقص مما خلق لدي رغبة في السير عكس التيار و الاسهام بوجهة نظري.