© Youssef ElBeshlawy

وضاعت في الزحام

سن الأربعين، سن النضج، سن الوصول إلى اكتمال الجوانب الشخصية عند الإنسان، ولكن عندما وصلت إحسان إلى سن الأربعين كان الموضوع مختلفًا.

اسمها إحسان عادل، ظل هذا الاسم مبعثًا للسخرية لدى أقرانها في المدرسة الثانوية التي ألحقها بها والدها المحامي المشهور عندما أنهت دراستها الإعدادية بمدرسة الليسيه الفرنسية، وقد أصر والدها برغم ثرائه على إكمال تعليمها بمدرسة أميرية مثلها مثل أي فتاة مصرية في مجتمعها وكانت النقلة شاسعة بين المدام والأبلة بين المسيو والأستاذ بين مستوى المدرسة الفرنسية وطالباتها ومستوى مدرسة المبتديان الثانوية بنات، وكان الأب محاميًا مشهورًا ذا فكر اشتراكي ناصري، مؤيدًا لإزالة الفروق بين الطبقات والتحام طبقات المجتمع كله، لا فرق بين طبيب ووزير وموظف وساعٍ.

وعانت إحسان من فكر والدها أشد المعاناة حتى أنهت دراستها الثانوية والتحقت بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وأنهت الدراسة فيها، وعملت بجريدة الأهرام مترجمة من وإلى اللغة الفرنسية. وهنا بدأت معاناة شابة في منتصف العشرينات من عمرها تربت على أفكار ومبادئ لم يعد لها وجود فى ثمانينات القرن العشرين. وبوفاة الأب أصبحت المشكلة عقدة كبيرة، هل ما قام به أبي صحيح؟ هل مبادئه التي قام بغرسها في نفسي صحيحة؟!

أحبت إحسان زميلها في العمل. كان يعمل مترجمًا للغة التركية، وكان سليل الدم التركي الذي ما أكثره في المجتمع المصري. ولكن هذا الشاب الذي أحبته إحسان كان يرى أن الدم التركي نادر جدًا في هذا المجتمع لأن معظمه من عائلات تفتخر بالأجداد الذين نزحوا من الأستانة ليقوموا بنهب خير المجتمع المصري، ذاك النهب الذي ظل مستمرًا لعدة قرون منذ بدايته على يد السلطان سليم الأول.

وبدأت المأساة بعد الزفاف بشهور قليلة، حيث اكتشفت إحسان مدى طبقية زوجها وأسرته. فرغم كونها ندًا لهم في التعليم والثقافة، بل وتفوقهم ثراءً، إلا أنها كانت بالنسبة لعقولهم التي مازالت تعيش فى عصر الخديو أقل منهم. ذلك أن والدها المحامي الثري من أصل مصري وجدها من أثرياء الريف، وما زالت عائلتها تمتلك عدة أفدنة تترامى أطرافها في بلدتها الريفية. صُدمت إحسان عند أول خلاف بينهما وكان هذا الخلاف بعد شهر العسل بأشهر قليلة. وتفاجأت أن زوجها المتعلم المثقف يطالبها بعدم دعوة عمتها في بيتهما مع أفراد عائلته، حيث أنهم لا يرغبون في الاختلاط بالفلاحين وأوساطهم. صُدمت ثم واجهته بأن عمتها تمتلك عزبة كبيرة في بلدتهم وزوجها رجل وجيه من أفضل عائلات بلدتهم، بل عمتها وزوجها وإن كانا أصحاب أراضٍ فهما كذلك حاصلان على بكالوريوس زراعة وأن زوج عمتها يقوم بتحضير رسالة الدكتوراه. فما كان من الزوج إلا أن قال لها “فلاحين، شوية فلاحين”.

وتعاقبت المواقف والصدمات حتى أصبح الطلاق هو الحل الوحيد.

وبعد أن أفاقت إحسان من مأساة زيجتها الفاشلة قررت أن تسافر عدة أشهر للراحة والاستشفاء النفسي في باريس، إذ كانت عادة المصريين من الأثرياء في تلك الحقبة السفر إلى فرنسا للراحة. وفي عاصمة النور قضت إحسان وقتها بين زيارة المتاحف والاستمتاع بالحرية التي لم تجدها في القاهرة. وبالفعل قضت عدة أشهر كانت من أجمل فترات حياتها حتى قررت أن تستقر في عاصمة الحرية والموضة وأن تعمل مترجمة ومعلمة للغة العربية هناك.

ومرت الأعوام حتى أصبحت إحسان في منتصف الثلاثينات، امرأة مختلفة تمامًا حريصة كل الحرص على ما تربت عليه من فكر اشتراكي مع ما زاد عليها من فكر تنويري لإقامتها الدائمة في باريس، حتى تعرفت على أحمد.

أحمد ابن الأسرة المتوسطة الذي كافح سنين طوال حتى أصبح ملحقًا ثقافيًا في السفارة المصرية في باريس.

تزوجا، ووجدت فيه كل ما هو مخالف لزوجها الأول سليل الدم التركي. وجدت فيه التواضع والاعتزاز بالأصل المصري المتوسط، وجدت فيه الفكر المتحرر المتنور مع الاحتفاظ بعادات وتقاليد المجتمع المصري المعاصر.

وعاشت معه ستة أعوام من السعادة ولكن شاء القدر أن لا تنجب منه أبناءً. وكان دائمًا غير مهتم بهذا الأمر، حتى أنه رفض أن يذهبا إلى الطبيب لمعرفة الموانع التي حالت دون حدوث الحمل حتى الآن.

وتم نقل أحمد إلى مصر، وعادت معه

عادت لتجد المفاجأة التي دمرتها

عادت لتجده متزوجًا من قبلها من ابنة خالته وقد رزق منها بابن عمره تسعة أعوام.

وانهارت

وطلبت الطلاق، فكان رده أنه يحبها وأن حياته الحقيقية قد بدأت منذ أن تزوجها وأنه لا يستطيع تركها وكذلك أنه لا يستطيع تطليق ابنة خالته الريفية التي كان زواجه منها مجرد شكليات وأن طلاقه منها الآن يعد من المستحيل لأنه مخالف لعاداته وتقاليده التي نشأ عليها منذ صغره.

أصبحت إحسان الآن امرأة في أوائل الأربعينات فاقدة الثقة في أفكارها ومعتقداتها

فاقدة الثقة في الرجل

فاقدة الثقة في المجتمع

المجتمع الذي سلبها حقها في حياة طبيعية، مرة باسم الطبقية ومرة أخرى باسم العادات والتقاليد

وركضت إحسان وما زالت تركض وتركض حتى ضاعت في الزحام.