أتذكر جيداً رصيف الميناء، يوم 3 نوفمبر، الساعة الحادية عشر ودقيقة، يمكنني تذكر عدد الأشخاص يومها على رصيف الميناء وألوان ملابسهم، عدد السفن والمراكب الصغيرة، صوت البحر، عدد أحضان الوداع، البكاء، السحب الكثيفة التي تُنذر بأمطار عاصفة، لفحة البرد على وجهي، دموع حاولت كتمانها وأنا أنظر للأرض، لكنها فرت إلى وجنتي، أتذكر كل شيىء، إلاّ عيون سارة٬ رفضت النظر إلى عيونها، حتى لا أجهش بالبكاء كطفل صغير أمام الناس، وحتى لا أنظر إليها مباشرة، راقبت كل شيىء حولي، في النهاية، لوحت لها مودعاً وهي تبتعد، دون أن أقول كل ما أردت قوله، رأيتها للمرة الأخيرة وهي على ظهر السفينة، تبادلني النظر، وكالأبله لا أفعل سوى التلويح والبكاء. قبلها بعدة دقائق، قالت سارة:
– ارحل معي، لماذا تبقى هنا؟
قلت وأنا أراقب رجلاً يحتضن طفلته في عجالة، خوفاً من رحيل السفينة بدونه:
– لا أستطيع المغادرة، هنا ولدت وهنا دفنت أمي !
قالت:
– لن أفني حياتي هنا.
رحلت سارة وتمسكت أنا بأنقاض المدينة المنسية ووعد قطعته لأمي في زمن طفولتي، قبل سنوات طويلة للغاية، قالت أمي:
-لا تذهب إلي الميناء إلاّ لتوديع شخص أو استقبال آخر، لا ترحل، ذهب والدك ولم يعد، ابتلعه جنون العالم.
نالت منها الذكريات، لتصمت قليلاً قبل أن تعود للنظر في عيني مباشرة:
– أحمد، عش حياة هادئة بعيداً عن صخب العالم.
دائماً تطاردني ذكرى يوم رحيل سارة كما تطاردني ذكريات أيام أخرى، في تواطىء واضح بين مرور السنين والذكريات لتحطيم فؤادي، لأتذكر، أن حبيبتي الوحيدة على الجانب الآخر من العالم، وأنا هنا، أحد رواد مقهى بلا أسم، مقهى كئيب، يحتضن العجائز، طاولاته متناثرة بلا ترتيب، وردة زائفة على كل طاولة، بدون أي مفارش، رواده القلائل، مخلصين للمكان منذ أزمنة بعيدة، الكراسى المريحة للمقهى، تساعدنا لنتحمل مرور الساعات، حتى وقت إقفال المقهى في السادسة مساءاً، لم يعد يتبقى من المقهى القديم سوى النادل الكهل، صاحب المكان.
أجلس دائماً بجانب النافذة الوحيدة للمقهى، أتأمل البشر العابرين، أحياناً أتبادل الابتسامات مع بعضهم، صداقات تدوم لثوان معدودة، صداقات بريئة بلا أي خداع او متطلبات، يأتي النادل ويقول:
– ماذا تشرب أيها الغريب؟
دائما ينعتني بالغريب، أود في كل مرة إخباره أنني لست بغريب، أسكن في البناية المقابلة للمطعم وأمي فيما مضى كانت تملك أجمل ابتسامة في المدينة، ربما تعرفها أيها الكهل، لكنني لا أنطق سوى:
– قهوة من فضلك.
هكذا تمضي أيامي، منذ رحيل سارة وموت أمي، في هذا المكان الصامت، عشر سنوات معلق في الوسط، لا أقوى على الموت ولا أقوى على الحياة، قبل الانتفاضة ضد حاكم المدينة، كان هذا الشارع مزدهراً، بدأت ثورتنا من هنا، بعض الهتفات والأوراق، قبل أن ينساب الدم على الأرض، ويختفي الكثيرون في مقابر مجهولة، ويختفي الجزء الباقي تحت رداء الخوف، ثم ازدادت قبضة الحاكم وذهبت الأحلام طي النسيان وبدأ الرحيل صوب العالم بغزارة شديدة. نحن الآن مدينة منسية، يغادرها الطموحون من أجل حياة أفضل، كل ذلك لأننا أردنا، أجوراً أفضل، يا للسنوات التي مرت سريعاً.
تمر فتاة من أمام المطعم، في تمام الساعة الواحدة، ترتدي فستاناً أسود يكشف عن ساقيها، دائماً تمر في الساعة الواحدة وترتدي ذلك الفستان الأسود، أراقصها في خيالي بعدما نتبادل الابتسامات المعتادة وترحل. أملك الوقت للنظر إليها والخيال لمراقصتها، أتمنى دائماً أن تتأنى في مشيتها، أطمع في ابتسامة تدوم دقيقة واحدة. بالأمس ناديت النادل الكهل، سألته عنها:
– فتاة تمر دائماً في الساعة الواحدة، ترتدي فستاناً أسود؟ هل تعرفها؟..
قال:
– نعم إنها العاهرة صوفيا، تفتح ساقيها للجميع، لأن لديها حلم
ضحك الكهل لوقت، أظن أنه امتد لعدة ساعات، لشدة سخافة ضحكته، سألته:
– أي حلم ؟
– أن تدور حول العالم.
قلت ساهماً:
– دائماً ترتدي ذلك الفستان، ربما لا تشعر أبداً بالبرد
قال الكهل ضاحكاً:
-ربما تمنحها مضاجعة الرجال دفءاً لا ينتهي.
-أو ربما هذا دفء الأحلام.
ذهب الكهل ووقعت أنا في غرام صوفيا، لأن لديها حلم، مازال أحدهم في المدينة يملك حلم. أحسست في هذه اللحظة أنها تشبه ابتسامة أمي وجنون سارة، أنها كل شيء جيد في العالم. بعدها بلحظات، جاء من بعيد صوت أحد عجائز المقهى، اسمه رأفت، دائماً ينظر في جريدته، يقرأ كل حرف، طوال أربع ساعات، ويرتشف قهوته ببطىء، لأنه كما قال النادل الكهل ”يحاول نسيان ذكرى زوجته المتوفية”. قال رأفت:
– كم عمرك ؟
قلت بتلقائية شديدة، كأنني أنتظر من زمن أن يطرح أحدهم هذا السؤال:
-عمري ثلاثون عاماً وقصة حب فاشلة وخوف من الرحيل للجهة الأخرى من العالم وثورة صغيرة ضد حاكم المدينة..
قال:
-إنك عجوز بما يكفي لتجلس هنا، لكن لا تعتقد أنّ هناك في الجهة الأخرى، ينتظرك عالم أفضل.
وعاد للنظر فى جريدته، قبل أن يستيقظ عجوز آخر من سباته العميق، ويقول بصوت عال:
– ثلاثون عاماً ؟ ثورة ؟ لي ابن مات في تلك الأيام، في هذه الثورة، ودفن في قبر بلا شاهد، لا أعرف مكانه، أريد تقديم بعض الورود لأجله، ألا تعرف مكان قبره يا بني؟
قلت بلامبالاة:
– لا.
كان هذا اليوم يوماً حافلاً بالأحاديث فى المقهى، لا تزيد الأحاديث عادة هنا عن ”خبز من فضلك، قهوة من فضلك” لا شيىء أكثر أو أقل، لكن اليوم أنا مختلف، قررت أصطحاب صوفيا للغذاء، اليوم، سأخبرها ”صوفيا، هل ترافقينني لتناول الغذاء؟ أقسم أنني لن أحطم قلبك” أو ربما أقول ”صوفيا، أنا أيضاً لدي حلم، أحب ابتسامتك، هل ترافقينني لتناول الغذاء؟“. لن أصطحبها إلى هذا المكان البائس، ربما نذهب للشاطىء، نراقب الغروب، سوف تحدثني عن حلمها، أتخيلها مبتسمة وهي في القطار تتجه إلى وارسوا أو باريس، وتقدم القرابين لتماثيل الآلهة في اليونان، سأرافقها في رحلتها، وأخبرها عن ابتسامة أمي وغنائها في الشرفة، وعن الوحدة أيضاً، ربما أقول ”أنت تعلمين معنى أن تكوني وحيدة في العالم، مئات البلدان وآلاف المدن ومليارات البشر، وأنت وحدك، لا يوجد شخص يهتم لأمرك، في عالم لا نهاية له”. سوف نتبادل ملايين الكلمات بلا أيّ كلفة، في الأزقة والشوارع والقطارات والمراكب، لن نتوقف عن الحديث وتتبدد وحدتي وأترك للأبد. ذلك المقهى، أكرهه بشدة، لكنه يشبهني، طاولات قبيحة وصور قديمة يعلوها التراب، لأشخاص رحلوا في الأزمنة الماضية، وعجائز في كل أركانه، ينتظرون الموت أو أن يتذكرهم أحد، مكان يعبر عن الوحدة، لا يليق بابتسامة صوفيا الصافية. وعندما أرحل عن هنا رفقة صوفيا، ويموت آخر عجوز يجلس في المقهى، سيقفل أبوابه ولن يتذكره أحد. لكنني أخشى أن ترفض صوفيا دعوتي للغذاء، وأندثر كهذا المكان، غريب لا يتذكرني أحد، غداً سأخبر صوفيا كل شيىء، ونعيش سويّاً للأبد، وبعد سنوات طويلة، أموت مبتسماً في سرير دافىء.
الساعة الواحدة، مرت صوفيا أمام المقهى، ابتسمت وبادلتها الابتسامة، لم أتحرك كما خططت في خيالي، لا أمتلك شجاعة الحديث معها، لا أمتلك الشجاعة للحياة، سأكتفي بالابتسامة والطاولة القبيحة والنادل الكهل والعجائز، والصداقات القصيرة للغاية، أنا وقهوتي وخيالاتي وذكريات سنواتي الأولى وابتسامة أمي وأيامي مع سارة، أنا كومة من الذكريات التي تتحول في ذاكرتي عبر امتداد السنوات لضباب، أخشى من يوم تخونني الذاكرة، وأنسى ما بقي من ذكرى أمي، وعد قطعته عليها وابتسامة تحارب النسيان ومن سارة يوم رحيلها صوب المجهول، والثورة مجرد تاريخ يبعث على الخوف، هنا على تلال الماضي، في المدينة المنسية، سأحيا في الماضي، أشعر أنّ أفكاري مبعثرة اليوم أكثر من المعتاد، ربما لأنها أفكار رجل مُحطم، يشبه مدينته. وفيما يتعلق بصوفيا، النادل الكهل هو الوحيد الذي يعرف سري، أنني أحب ابتسامتها، وسألت عنها في ظهيرة يوم بعيد.
إنني أسكن مدينة منسية يحكمها ديكتاتور لا تدركه عدالة الرب أو البشر، يتفاخر أن مدينتنا كتب لها النجاة من الحروب التي طالت كل مدن المنطقة، ما بقى في الكثير من المدن مجرد أنقاض وهياكل عظمية وصرخات الموتى الأبرياء، تؤرق منام الجميع. كنت هنا، أهتف ضد حاكم المدينة، وحولنا تسقط المدن تباعاً في حروب الكراهية. أصبحنا في عزلة وفي النهاية هرب الجميع للعالم الآخر. أجلس في المقهى، وأحياناً أمشي في الشوارع المقفرة، أتأمل العجائز خارجين من دور العبادة، في خطوات بطيئة، في ظهيرة يوم الأحد، وصور الديكتاتور، تتواجد في كل الأمكنة، ينظر إليها العجائز بخوف، وهنا وهناك، صور المدن المحترقة، لنتذكر أنه علينا دائماً الصمت.
في أحد الأيام، وجدنا على شاطىء البحر جثة رجل يحمل بين يديه ورقة صغيرة، رسالة انتحار أو عتاب متأخر للحياة، ربما كانت مجرد جملة بلا معنى، ظن الرجل أنها جملة تليق بنهاية حياته. تجمع الناس حول الجثة، كان الرجل الميت يسند ظهره على شجرة عتيقة، قديمة للغاية. تقول الأسطورة أن الشجرة شهدت أول حالة فراق بين اثنين من الأحبة، وتتغذى على مشاعر الألم والفقدان، لذا تبقى الشجرة حية دائماً، طالما يوجد الألم الناتج عن الحب. الرجل الميت هنا، ليس الأول ولا الأخير، انتحر قبله في نفس المكان، عبر التاريخ، مئات العشاق، رجالاً ونساء، يموتون بهدوء، دون صخب، مجرد رسالة انتحار، وأحياناً بدون أي رسائل، يعرفهم أهل المدينة جيداً، وفي أوقات أخرى، يجد الناس رجلاً مشنوقاً، معلقاً من رقبته على أغصان الشجرة، ووجهه يكاد يكون مشوهاً من فرط الكدمات، لا يسبب الحب فى المدينة أي كدمات، ربما في مدينة أخرى يتشوه الناس من فرط الحب، لكن هنا، يحمل الحب سمة الهدوء قليلاً. الرجال والنساء أصحاب الكدمات تقتلهم الحكومة وتنسب الأمر لألم الحب وما أكثره في مدينتنا، ولأن الحكومة لا تعرف الحكمة جيداً، تعلق الناس من الرقبة وتترك معهم رسالة انتحار سيئة وتعتقد أن ما حدث قابل للتصديق، يصدق الناس فعلاً في الظاهر، وفي باطنهم تستقر الحقيقة والخوف، يتغذى الديكتاتور ورجاله على مشاعر الخوف، لذلك لا يموت أحد منهم، مثلهم مثل شجرة الألم العتيقة. تطوّع أحد الحضور وسحب الورقة من يد الجثة، قبل قدوم الشرطة، يحب الناس قراءة رسائل الانتحار، يشعرون بلذة غريبة وألم سرعان ما يزول. قرأ الرجل ما في الرسالة ”لم يقتلني الحب، بل الفقر”. أصابت الدهشة جميع الحضور، يموت الفقراء في منازلهم ويتكفل بهم الجوع أو الحكومة، لا يقتلون أنفسهم، إنهم أكثر البشر إيماناً برحمة الرب، كسر الرجل المعادلة. نظر الحضور إلى بعضهم وقرروا بالهمسات حرق الرسالة قبل قدوم الشرطة، حتى لا يتم محاكمة الرجل الميت وتكديره في ساعاته الأخيرة على الأرض. الحكومة تحاكم الموتى إذا لزم الأمر للحفاظ على وحدة المدينة من المخربين على حد قولهم، لنتجنب مصير المدن الأخرى.