أتخلل بين الزحام لأرى مصدر الدخان الكثيف الذي يتصاعد للأعلى، أزحف حتى أصل الى الأمام فترى عيني مبنى محطم سقفه لتغادره أبخرة سوداء.
يحدق الجميع في ذهول وصمت ومن وقت لآخر أسمع صيحة (فليطلب أحد الإسعاف).
ألمح رجلا أعرج يهرول خارجاً من ذات المبنى يرتدي جلباباً أسود مشوش شعره، وبعد دقائق تخرج امرأة تحمل طفلاً يسيل الدمع من عينها سيلاً لا ينقطع ليقطر من ذقنها قطرات متتابعة وتكشف عن عين حمراء حزينة، وتنطق بآهات وكلمات لا أعرفها، تراقص ولدها وتهزه بعنف ولا يُسمع صراخ منه ومن ثم تحتضنه وتقبله.
أراقب متسمراً صامتاً مثل الجميع وكأن أمامنا خط أحمر مرسوم يمنعنا من التقدم أكثر.
فجأة أسمع صراخاً وصيحات وقد التفتت أعين المشاهدين إلى موضع آخر، أحاول تبين ما يقولون ولكن الصياح طاغٍ وأذني تكاد تُثقب من شدته.
أسمع دوي سيارة الإسعاف وقد اقتربت من المبنى، وقد هدأ الناس إلى حد ما، فالتقط جملة مما كانت تقال في ثورتهم (تباً للإسعاف يصل بعد خمس عشرة دقيقة)، وآخر يقذف حمماً تتلظى من فمه إثر وجه بركاني غاضب (لا يبقى في تلك الدولة سوى
البعير.. حكومة بنت (لفظ خارج) ورؤساء ولاد (لفظ خارج))، ثم يقذف آخر حممه بصقة على الأرض.
أدلف إلى بيتي بعد أن عدت من عملي ومن ثم أبدل ملابسي لأمدد جسدي على السرير فأغمض عيني تاركاً روحي تغوص في هالته السوداء الموحية بالنوم والسكينة التي تجتذبني منذ دخلت لأقفز فيها.
أريح جسدي قليلاً ثم أقوم فأشغل التلفاز، يظهر على الشاشة حطام مبانٍ إثر تفجير قنبلة وجثث مترامية انتشل الناس بعضها من عمق الحطام وأسمع صوت المتحدث يأتي باسم فلسطين.
أحول الى القناة التي تليها لأسمع من يعدد أعداد ضحايا اليوم في سوريا.
أضغط على الزر التالي لأرى شخصاً يلبس زياً عسكرياً يقول إنهم تمكنوا في الجزائر من إحباط محاولة تفجير انتحارية.
يظهر على وجهي العبوس نتيجة لمحاولات القدر في الحيلولة بيني وبين سعادتي، ففي الصباح أرى كنيسة مفجرة والآن وبعد أن عدت من عملي راغباً في الراحة، تفزعني تلك الصور والأحداث في بلاد عربية، ولو صبرت أكثر لرأيت المزيد.
ولكن لا بأس، لابد من بعض الطرب والإنعاش فالعالم ما زال يملك بعضاً منه.
أضغط أزرار الريموت لتظهر القناة التي آملها.
قناة الرقص الشرقي، لتمتع عيني راقصة تعجبني حركاتها ورشاقتها، يصفق الجمهور من وقت لآخر ويتجلى صوت مهرجان مصري من النوع الذي يجبرك على الاندماج معه لتجد أطرافك تتراقص من تلقاء نفسها.
-(بخ).
أنتفض من مكاني فزعاً إثر ما قذف في أذني.
*****
-أفزعني وأنا ذاهب لعملي دوي انفجار سمعت إثره صراخ وصوت ارتطام صخور.
أسرعت تجاهه فإذا بكنيسة الحي المقابل يتصاعد منها الأخبرة والناس يتجمعون (احمر وجهه غضبا وهو يكمل نطق حروفه بحدة ويقبض على يده بشدة) وكأنه حدث تاريخي مر عليه مائة عام ويشاهدون الآن عبر التلفاز.
انسللت وسط الزحام عابراً الى جهة الحادث وأنا أهاتف الإسعاف لكي يسرعوا ومن ثم ناديت في الناس عندما عبرت لكي يأتي معي أحد لننقذ من تبقّى حيا وأسرعت للداخل وأنا أسترق نظرات الى الخلف لأتبين أتبعني أحد أم لا ولكن… (زم شفتيه).
وجدت قسيسا يحاول رفع صخرة عن قدمه ولكن لا يستطيع فساعدته في حملها، وامرأة هائجة فوق كومة حطام تحاول رفع ما تستطيع منها باحثة عن شيء ما بالأسفل، كان الدمع يسيل من عينيها وتبكي وتشهق، تنتقل من هنا لهناك وتنادي على من يساعدها، غمرني شيء من الحزن الذي كان ينبعث منها مسيطراً على الأجواء (تتجمع الدموع في عينيه) حاولت مع جمع من الحاضرين نزع الحطام، حتى تكشف عن صبي لم يبلغ الرابعة بعد (صمت وشخصت عيناه في الفراغ).
أخي اسمه (مالك) يبلغ الثامنة والعشرين، تخرج من كلية الهندسة عين شمس وكان يعمل في السعودية إلى شهر من الآن، حيث إنهم استغنوا عن عدد كبير من المصريين في مختلف المجالات واحتدت المعاملة بين الطرفين بسبب أحداث تيران وصنافير.
لم يتزوج بعد، ويعمل الآن في محل بقالة الى أن يجد عملاً هنا، دخل إلى البيت وانا أشاهد التلفاز فأفزعني ومن ثم جهز الغداء وأتى به وبدأ في الأكل حتى بدأ في سرد ما سايره اليوم ولم يضع لقمة في فمه.
-(يكمل) حكى لي شخص قابلته في سفري قصة لن أنساها أبدا، يتكلم حمار فيقول (كنا، نحن معشر الحمير، سابقاً نتحدث بلغة خاصة بنا، أسوةً بكم معشر البشر، هذه اللغة كانت جميلة وغنية، ولها وقع موسيقي جذاب كنا نتكلم ونغني. لم نكن ننهق مثلما عليه الحال الآن. لأن النهيق بدأ عندنا فيما بعد، وتعلمون أن جميع حاجاتنا ورغباتنا وحتى عواطفنا، نعبر عنها الآن بالنهيق.
ولكن ما هو النهيق؟ هاق، هاق.
هو عبارة عن مقطعين صوتيين، أحدهما غليظ وثخين، والآخر رفيع، يصدران الواحد إثر الآخر.
هذا هو النهيق.. الذي بقي في لغتنا ، لغة الحمرنة، لكن كيف تغيرت هذه اللغة حتى أصبحت بهذا الشكل؟
لجم الخوف ألسنتنا وذهب بعقولنا، وبسبب الخوف نسبنا للغتنا الحميرية.
في غابر الزمان كان يلهو حمار هرِم وحده في الغابة، يغني بعض الأغاني بلغة الحمير ويأكل الأعشاب الغضة الطرية، وبعد فترة من اللهو تناهت إلى منخريه رائحة ذئب قادم، من بعيد. رفع الحمار رأسه عالياً وعبأ الهواء ملء رئتيه وقال: لا يوجد رائحة ذئب، لا، لا ليست رائحة ذئب ، وتابع لهوه قافزاً من مكان إلى آخر، ولكن الرائحة أخذت تزداد كلما دنا الذئب أكثر. هذا يعني أن المنية تقترب.
– قد لا يكون ذئبا ، قد لا يكون، ولذلك حاول الحمار الهرم أن يطمئن نفسه، إلا أن الرائحة كانت تزداد بإطراد، فلما ازداد الذئب اقترابا ، كانت فرائص الحمار ترتعد رعباً، ومع ذلك كان يحاول إقناع نفسه بأن القادم ليس ذئباً.
– إنه ليس ذئباً، إن شاء الله كذلك، ولم يكون كذلك؟ ومن أين سيأتي وماذا سيفعل؟
وهكذا ظل الحمار الهرم يخدع نفسه، حتى بات يسمع صوتاً غير مستحب، صوت دبيب الذئب القادم.
– إنه ليس ذئباً، لا ليس صوت ذئب، ولا يمكن أن يكون كذلك، وماذا سيعمل الذئب هنا، ولم سيأتي؟؟؟
ومع اقتراب الذئب أكثر فأكثر أخذ قلب الحمار يخفق وعيناه ترتجفان، وعندما حدق عالياً صوب الجبل، رأى ذئباً مندفعاً مخلفاً وراءه سحباً من الغبار.
– آه آه.. آه إنه ذئب، وكنت أحلم بذلك؟ قد يكون خُيِّل إليّ أن ما أراه ذئب أو كنت أحلم بذلك.
وبعد فترة ليست طويلة رأى ذئباً قادماً من بين الأشجار، مرة ثانية حاول أن يطمئن نفسه قائلاً:
– أتمنى أن لا يكون ما أراه ذئبا ، إن شاء الله لن يكون كذلك، ألم يجد هذا اللعين مكاناً آخر غير هذا المكان؟ لقد أصاب الوهن عيني، لذلك أخذت أرى هذا الشيء ذئباً قادماً.
تقلصت المسافة بينه وبين الذئب حتى أصبحت خمسين متراً. أيضا حاول طمأنة نفسه قائلاً:
– إن شاء الله أن يكون ما أراه ليس ذئباً، قد يكون حملاً أو فيلاً أو أي شيء آخر. ولكن لِمَ أرى كل شيء بهيئة ذئب؟
– أعرف تماماً أن ما أراه ليس ذئباً، ولكن لِمَ لا أبتعد قليلاً.
أخذ الحمار الهرم يبتعد قليلاً ناظراً إلى الوراء، أما الذئب فقد اقترب منه فاغراً فوهه.
– حتى لو كان القادم ذئباً ماذا سيحصل… لا، لا لن يكون ذئباً، ولكن لم ترتعد فرائصي؟
جهد الحمار الهرم أن تكون خطواته أسرع، حتى بات يركض بأقصى سرعة أمام الذئب المندفع.
– آه كم أنا أحمق فقد صرت أظن القط ذئباً وأركض هكذا كالمعتوه، لا ليس ذئباً…
زاد الحمار من سرعته حتى أخذت ساقاه ترتطمان ببطنه ومع ذلك استمر في خداع نفسه قائلاً:
– حتى لو كان الذي أراه ذئبا ، فهو ليس كذلك، إن شاء الله لن يكون كذلك.
نظر الحمار الهرم وراءه فرأى عيني الذئب تشعان وتطلقان سهاماً نارية، وتابع ركضه مطمئناً نفسه بقوله:
– لا، لا يمكن أن يكون ذئباً.
نظر الحمار خلفه عندما شعر بأنف الذئب يلامس ظهره المبلل، فوجده فاغراً فمه فوق ظهره.
حاول الركض إلا أنه لم يستطع ذلك لأن قواه خانته، فأصبح عاجزاً عن الحراك تحت ثقل الذئب، ولكي لا يراه فقد عمد على إغلاق عينيه وقال:
– أعرف تماماً أنك لست ذئبا.
لا تدغدغ مؤخرتي إني لا أحب مزاح اليد.
غرز الذئب الجائع أسنانه في ظهر الحمار الهرم، ونهش منه قطعة كبيرة، ومن حلاوة الروح، كما يقولون، إرتبط لسان الحمار ونسي لغته.
– آه آه إنه ذئب آه، هو آه هو …..
تابع الذئب النهش من لحم الحمار الهرم ذي اللسان المربوط، حيث لا يصدر منه سوى آه هو … هاق …. هاق.
منذ ذاك اليوم نسينا أيها السادة، ولم نستطع التعبير عن رغباتنا وأفكارنا إلا بالنهيق)، انتهت القصة، ألم يخطر ببالك ما علاقتها بواقعنا الحالي.
-(أضع سبابتي على فمي مفكراً) اممم… تقصد أن الغرب يتآمر علينا ونحن لا نعي ذلك وسوف نكون ضحيتهم إن لم نفعل شيئاً.
-إن لم نفعل شيئاً! صحيح إن لم نفعل شيئا سنكون ضحية ولكن لأننا ضعفاء وليس لأنهم يتآمرون علينا، ليسوا بحاجة للتآمر علينا فلسنا أقوياء وأساطير لكي يتآمر علينا لإسقاطنا من هم أقل منا، إننا فقط نخدع أنفسنا بذ…
-(قاطعته متعجلاً، يبهرني كل مرة برأي لم أسمع به قط لا أدري من أين يأتي بها) إذاً فما العلاقة بين القصة وما يحدث؟
-(ابتسم ابتسامة خفيفة) حسناً، لقد كنت على وشط إخبارك بغير سؤالك ولم أنتهي بعد ويبدو أنه بمقاطعتك نسيت ما أقول.
(آخذ نفساً عميقاً وأريح ظهري على الكرسي).
-آه لقد تذكرت.. إن الوضع على العكس تماماً مما تقول. إن الصراع يكمن في بلاد الغرب، فيما بين بعضهم وبعض، أمريكا وروسيا والصين وأروبا واليابان، والصراع بينهم يتخذ صوراً غير مباشرة كالتقدم الصناعي وتطور الأسلحة والتسابق الفضائي وحروب الحاسوب والتجسس، أظنك سمعت بها، كل منهم يحاول حماية نظامه بلحمه ودمه وبكل الطرق الممكنة ولا وقت لديهم لذكر اسم العرب حتى، وتضم تلك الدول نظماً كالشيوعية والليبرالية والرأسمالية، كل منهم مختلف عن الآخر ويحاول فرض نفسه على مناطق أكبر من العالم، أما نحن .. نحن كالقشة في مهب الريح لا تملك رداً أو صداً لأتفه الأشياء. (صمت وأخذ نفساً عميقاً).
-هل انتهيت الآن؟
-نعم (قال وهو يلتقط المعلقة ويغمسها في الخضار ليغرسها مرة أخرى في الأرز)
-لم أفهم العلاقة بعد، رأيك متباين كالعادة عن الجميع ومقنع الى حد ما.
-(قال بعد أن ضحك) ألم تفهم بعد ما أرمي اليه، ولماذا نحن ضعفاء!
-(أهز رأسي نافيا).
-(وقف ثم استدار خارجاً من الغرفة) حسناً سوف أنام الآن ونكمل فيما بعد (يكتم تثائبه بيده).
******
أتقلب في رقدتي على مضجعي لا يأتي لجفنيّ أي رغبة في النوم.
أستقر على ظهري لأرى خطوطاً ذهبية مشدودة الى النافذة، تخترق الظلام الحالك وتظهر استيلاءه على الهواء عديم اللون، يسخره لصالحه فيستر به جمال كل شيء، يبدد الضوء شيئاً من الظلام كاشفاً عن زخرفات ملونة تزين السقف.
تماماً كما نرى في عالمنا، فبسهولة يُجند من هم مثلي ونسخر لصالح الظلم فنبيد كل جمال، وينير لنا العاقلون شيئاً من الجمال يكون بصيص أمل سرعان ما نحكم بإعدامه بأيدينا، غيرنا الذين ما أفضوا ما بداخلهم إلا لسعادة غيرهم.
ما أنا إلا موظف قارب الأربعين، يذهب كل صباح الى عمله الحكومي ليسجل حضوره ويشرب فنجانين من القهوة ويكمل وقته في الحديث مع زميله في المكتب أو يتصفح الانترنت من حاسوب العمل الذي انقرض نوعه من زمن ومن ثم يسجل انصراف بعد مراجعة ورقتين مما أعطتها لي زميلة في العمل لأمررهم للمكتب المجاور ليكمل الإجراءات.
راتبي يكاد يكفي شخص واحد وهو أنا، ولم أتمكن من الزواج بعد، ولا أملك غير تلك الشقة التي ورثتها أنا وأخي من أبي. تتشكل الخطوط في السقف على صورة الرجل الذي خرج مهرولاً والمرأة التي تحمل الصبي، وصورة أخي وهو تترقرق عيناه. ترن كلماته في أذني من جديد (ألا تعلم لم نحن ضعفاء أو لماذا نحن كالقشة في مهب الريح).
لا تظهر أي علامة على أني سوف أنام الآن والجو خانق هنا، أقرر أن أنزل إلى القهوة أسفل البيت لأجلس فيها.
أنزل الى القهوة أجد عدداً من الناس يملؤها، بين لاعب (كوتشينة) ولاعب (دومنه)، ومن يناول صديقه (الشيشة)، ومن يشاهد التلفاز بصمت.
صوت مهرجان محمد رمضان (أديك في السقف تفحر) يتعالى على أصوات الجميع، وشاب يعمل لا أظنه تجاوز العشرين، يهرول من هنا لهناك إما يبدل حجر (الشيشة) أو يضع أكواب القوة والشاي.
أتخذ موضعاً بالقرب من الشارع الرئيسي وأطلب كوب ينسون.
أحاول أن أفكر أين وقفت عن التفكير قبل أن أنزل الى هنا.
آه لقد تذكرت ..
إنها كلمات أخي يقول أننا لا يمكن أن يتآمر علينا أحد فنحن لا نساوي شيئاً يُذكر بالنسبة إليهم.
ماذا لدينا سوى شباب عاطلين وآخرين على القهاوي وموظفين لا يقدمون شيئاً، والأغلب آثروا الشركات الخاصة ليعملوا فيها ما يقارب العشرة ساعات، يعودوا يعدها كالموتى الى بيوتهم لا يملكون طاقة لحق زوجة أو لتربية أولاد، ليقفزوا إلى قبرهم ويسرعون صباحاً إلى جحيمهم، لتسرق أعمارهم وصحتهم مقابل (ملاليم).
(هاق… هاق) صوت حمار يأخذني من تفكيري ليعيدني الى موضعي فأعود أتامل الناس وأسمع صوت المهرجان يطغى.
أنظر تجاه صوت الجمار لأجده مربوطاً إلى شجرة على الرصيف الذي ينصف الشارع نصفين، يملأ روثه الأرض والذباب يتناثر حوله.
تلمح عيناي الشجرة وقد تلألأت أوراقها تحت ضوء عمود الإنارة.
تريح أوراقها الخضراء عيناي عند النظر إليها فأظل محدقاً بها.
أتصورها وهي تمتص غذاءها من باطن الأرض لتبعثه الى أوراقها، في اتجاه معاكس للجاذبية متحدية القوى العظمى على الأرض، وتبعث بجذورها لتمتد في أعماق الأرض فتلتصق بها منتصبة قائلة للجاذبية لا أحتاجك.
غذائها الماء وبعض أملاح التربة تعيش بهم ألوف السنين، تؤدي خلالهم مهمتها بكل إتقان وسلام ولا تأكل غير ما يكفيها.
تنثر لنا غازنا الذي نتنفس لنحيا ونأكل اللحم والسمك ونشرب المشروبات الغازية وها أنا أقعد لا قيمة لي ولا يدل على حياتي غير إمضائي في عملي وقاذوراتي التي تصل الى الصرف الصحي.
نحن الذي سخر العالم لأجلنا لكي.. لكي ولسبب واحد هو تعمير الأرض أو الكدح فيها ولو بشيء بسيط، فمن لا يفعل ذلك فلا يحق له ذبح دجاجة ليأكلها، فهي لها حق في الحياة مثله تماماً.
أما هي فتعمل بصمت، تبهج أعيننا بلونها الأخضر وينضم اليها الطير صباحاً ليطرب آذاننا ويحرك أشجاننا ولا تحتاج غازنا كما نحتاجها، فهي صباحا تنثر الأكسجين و مساءاً تتنشقه.
(شابو) لك أيتها الشجرة.
التقط كوب الينسون وأفرغه في جوفي دفعة واحدة.
لقد نشط أخي حاسة التفكير لدي من جديد.
بعد أن رأيت جاري يُسحل أمام زوجته وأولاده فور عودته من مظاهرة كان فيها احتجاجاً على رواتب الموظفين.
فاتخذت عهداً ألا أفكر كثيراً في أي شيء، وآرائي واعتراضاتي أدفنها بداخلي.
وأحيانا ألتهم السجائر بعنف آملاً أن تقذف معها موجات غضبي التي تصدر عني لتصرع بصمت ذلك الفساد.
******
-ولكن كيف…
أستيقظ فزعاً على صراخ أخي.
-(يتابع ونبرته يغمرها الحزن) كان عائداً معي في المطار هو وزوجته من السعودية…
أترجل من السرير وأتوجه تجاه غرفته.
-(صوت التلفاز) أنا حسام السيد، أعترف بأنني من كنت وراء عملية التفجير الحادثة بالأمس في حي … (صوت أنثوي) هذا وقد أنبأتنا مصادر أخر… ( انقطع التلفاز).
-ما لك؟
(يرفع يده اليسرى أن اصمت وبيده الأخرى يمسك هاتفه، ينظر أرضاً وتتساقط دموع من عينه).
أذهب لأغتسل وآكل لقمة ومن ثم أذهب لعملي.
كالعادة أبدأ يومي بشرب فنجان قهوة من تحضير زميلتي وأتصفح الفيس بوك.
أتى إليّ إشعار بأن (مالك عواد) قد أشار إلي في منشور لأراه.
هو صاحب المنشور، وقد نشره من (Dr. Hossam Elsaid). أفتح المنشور لأرى اسم أسبوع، ويكتب فيه الآتي.
-قرأت ذات يوم قصة ل (عزيز نيسين) الكاتب التركي، يقول فيها (آه منا معشر الحمير…
(القصة كاملة في الصفحة الثانية) …).
أفضفض ما بداخلي من كلمات لا أريد أن يقرأها غير من وعى علام أرمي في قصتي..
إلى من يتسع خيالهم لفهم ما وراء الأحداث…
الى من لا يريدون من الدنيا سوى العيش في سلام مع أنفسهم ومع الناس…
الى من تخلو أنفسهم من أمراض الطمع والغرور والرغبة في التحكم في الناس
والتشديد عليهم…
الى من يدركون الشيء قبل وقوعه من علاماته التي لا تستعصي عليهم…
الى من تطغى مبادئهم السامية وفطرتهم الإنسانية على عقولهم قبل أن تتسرب إلى عقول غيرهم…
إلى من هواه وعبادته وصلاته التي يبث فيها لله سره ونجواه هو صلاح الجميع…
أعري أمامك ما بصدري لأخفف عني ما يجتاحني ويؤرقني ويذرف الدمع من عيني،لأقذف كلمات كالحمم، تخشى اقترابها منك فتشوهك، لتسرع راكضاً في سبيل نجاتك…
نحن العرب نعاني أزمة هشاشة العلاقة بين بلادنا وبعضها وبين أفراد البلد الواحد وبعضهم.
لا نسمع حاكماً يريد توطيد العلاقة بين بلد وآخر ولا ينادي أيضاً بتوحيد أفراد شعبه.
بدأت بالفعل الحروب بين البلاد العربية وبعضها وبين أفراد الشعب الواحد وترى بأم عينك ذلك.
لا يأتي ذكر تقدُّم أو علم وإلا يتم الإعلان عن اكتمال منشأ سكني أو بناء برج أو كوبري.
هذا ما تغير في تلك البلاد إضافة على رزم الأموال التي تضاف الى جيوب الأغنياء أو التراب الذي يأكله الفقير ليسد جوعه.
مثل حيوانات ترعى في مزرعة حديثة البناء ويأكلون أشهى المأكولات وآخرون على النقيض.
من ينادي اليوم بالتقدم تراه غدا في نشرة الأخبار توفى في حادثة سير، ومن ينادي بثورة رفضا لتلك الحياة البائسة، يُسحل أمام الخلق ليكون عبرة ومن ثم يعيش حياة
أبأس منها في السجن.
انتشر الخوف في كل مكان، وتجسدت الأنانية في نفوس مريضة تحارب إخوانها وجيرانها بأيديهم إن أرادوا ما يخالف رغبة الحاكم، خوفاً من نظرة غضب منه أو ارتفاع الأسعار كعقاب منه.
يظن هؤلاء أنهم يعيشون، أقصد من يساعد على بقاء الظلم إلى أن يصير جزءاً منه، مهما كانت وظيفته ومنزلته.
يخدعون أنفسهم، يظنون أنهم برضا الحاكم يمكنهم العيش سعداء.
لا يدركون أن هناك قانوناً خفياً في النفس يزرع في قلبها نوراً وسعادة إن أدت صالحاً
ويزرع ظلاماً وتعاسة تلقائية إن أدت فساداً، إلى أن يفقدوا كل إنسانيتهم فيتحولون إلى حيوانات وشياطين، عقيدتهم البقاء للأقوى والأمكر.
تسير في الشوارع فترى صناديق القمامة تحيطها القمامة من كل جانب ويعلوها الذباب، وما إن تقترب منها حتى تراها فارغة ونظيفة.
تكمل طريقك لتفاجأ بمن تقذف بجانب قدمك حفاظة طفلها.
نعيش في سجن لا بأس به.. نفقد عروبيتنا شيئاً فشيئاً.. لتنقطع أنفاس من لهم أنفاس.. ومن ثم.. تختفي.
لغتنا تداس بالأقدام، تتصفح عدداً من المواقع العالمية فلا تجد للغة العربية مكاناً بين لغاتها.
متاجرنا نفخر باسمها الأجنبي، ونسمي المرء متحضراً إن ضم بعض تلك الكلمات الأجنبية في حديثه.
نعيش في عالم بدائي بسيط، وفريسة سهلة للغرب، وإن وقعنا تحت حكمه ولم يعجبنا الوضع أظننا سنلعن القدر.
تنظر إلى البلاد الاخرى فترى اليابان وقد عظمت وقويت بعد أن أبيدت، والهند ورغم دياناتهم التي لا تعد ولا تحصى وجدت طريقة لتوحيدها، واتفاقها، وانتشار التقبل والأخلاق بينهم.
وأمريكا التي لا تكفي ساعات اليوم لديها لفعل ما تريد.
كلهم يحاولون حفظ الأمن في كل مكان بتقدمهم وأسلحتهم، بلحمهم ودمهم، ونحن لا نقوى على ردع انفجار قنبلة.
نحن كما قال (د. مصطفى محمود) سنكون بعد عشرات السنين بالنسبة للغرب كالقرد بالنسبة لبني البشر إن لم نفعل شيئاً.
لا أريد لنفسي ولا لأبناء بلدي أن نكون كذاك الحمار في القصة نظل نخدع أنفسنا بأننا نعيش وإنما بقنبلة واحدة نووية من الملايين التي لدى أي دولة غير عربية مهما كانت، يمكن أن نباد.
نعيش الآن فقط لأننا تحت رحمتهم كلياً.
نحن كالغزال بالنسبة للأسد، إن أراد الانقضاض عليها لَفعل في أي وقت شاء، وهي حتماً فريسة سهله وسيأكلها.
“كل شيء يبدأ بالإنسان وينتهي به”.
إن أردت تغيراً فابدأ بنفسك، وتلقائياً ستجد غيرك يحبك ويقتدي بك، واسع بفريقك نحو الأمام وحاربوا الظلم والطغيان، وواسوا المظلومين والضعفاء وخذوا بأيديهم.
توحدوا ولا تجعلوا أتفه الأشياء تفرقكم، واحترموا اختلافكم، وآرائكم المتباينة.
تقو بالعلم والأخلاق، والإيمان بالحرية، وبحقك كإنسان أن تعيش إنسان.
وافخر بأنك عربي ابن عربي، واعتز بلغتك، وكن نظيفاً منظفاً.
وإن لم ترد…
فطوبى لشعب أراد التغير وإن قلت له أن يتغير لأجل ذلك قال عندما تتغيرون أولاً،
طوبى له دوام ظلم يريده وفضّل استمراره وعشق أن يكون جزءاً منه عندما انتشر،
وسوف يطغى عليه ويدفنه بين طياته.
انتهى المنشور.
الآن فهمت مغزى القصة ولماذا هو بالذات من اعتقل.