في هذا العدد الأول، حفنةٌ من النصوص، وراءها حفنةٌ من الكتّاب، يتحسسون الطريق. كلٌ منهم حاول ترويض تلك الأشياء التي تحول بين من يعيش مع رغبته في الكتابة، والكتابة. كلٌ كان لديه موانعه الخاصة، التزاماته. سألنا أنفسنا: كيف نجد الوقت للكتابة؟ كيف نخلقه؟ كيف نقرر أن نحبس أنفسنا، ونجلس على كرسيّ هزيل، أو نتمدد على فراش وحيد، لساعاتٍ طوال، لنكتب قليلاً، أو لا نكتب على الإطلاق…؟ إلى من نعهد بقراءة ما كتبناه؟ كيف نتوخى الحذر مع ذلك النص الذي يتكوّن؟ ومن منا يوقن دونما ذرة شك، أن ليس هناك سوى شأن واحد مُلِحّ يقتضي الانصباب عليه، ألا وهو الكتابة؟
لنلمّ شتاتنا، بدأنا بالكلام عن تجاربنا مع الكتابة، كيف يعيشها كلٌ منّا. كيف يتقوّس الظهر، كيف تتخدّر الأطراف عند الكتابة. كيف تسري فينا تلك الحرارة البكماء. كيف نغازل نرجسيتنا، وكيف يستبد بنا الخوف.
حدّثنا بعضنا بذلك، وسط ما يجلبه حديث الأصحاب.
وفرِحنا أيضاً… فرحنا عندما حكينا بهجة الكتابة، ذلك الانشراح، عندما يتحدد النص، عندما يتصالح مع ذاته. عرفناها لما حسسناها: إنها بهجة النصوص الوليدة، كما دفء قلبك أمام طفلك وهو يلعب.
ثم قلنا أننا نود الحصول على كتابات أخرى، لكتاب ليس النشر شغلهم الشاغل بعدُ. نود مجالسة وجوههم الصديقة، لنتكلم عما نفعله عندما نكتب، لنعترف لهم، معهم، أننا ربما لا نفعل شيئاً، ولكن تبقى الكتابة حملاً لا نتملّص منه. نقول لكم هذا لأن بينكم بالتأكيد من تلك الوجوه الصديقة، التي ترغب في الانضمام إلينا. ولأن تلك أسئلتنا الأزلية التي نوجهها للأدب. مرّةً أخرى: هل أنت الأهم؟ علامَ تقدر على أرض الواقع؟ هل يجدر بنا تركك والتفرّغ لتلك الأشياء الأخرى التي تجرنا من ذيول قمصاننا؟ تلك الأشياء التي تغرس فينا، للمفارقة، الرغبة في الكتابة…
نسينا أن نقول أننا نكتب
من بلداننا، من مصر، من المغرب العربي، وما بينهما
وأحياناً من أرض غريبة، من باريس، من لندن
ويبقى الكلام عن حالنا
نكتب من ضفاف المتوسط الجنوبية
نكتب من ذلك الشارع المشلول في القاهرة
من الشرفة الشاردة
من غرفتي الخانقة في حي النهضة
من البيت الذي يكتنفك
من العصر الذي لا يذبل في حلفوين
من الظهيرة البطيئة
من المظاهرة ويد الصديق الرطبة في يدك معلّقة بين البقاء، والرحيل
قلنا: يجب خلق ما يحوي تلك الحالات. أشكال، ألوان، ألعاب… ربما هو اللعب ما يلزمنا. اللعب بكل تلك النظرات التي نسلطها على بعضنا، وتلك المسلّطة علينا. عيون سحرية وعيون واهنة، عيون لا نستطيع أن نتناساها على كل حال. تطفو على سطحنا، تختبئ في بطوننا، تلفح ذكرياتنا، تشكّل توقعاتنا.
ولكن هل يجب أن نصنع من تلك الحالات أدباً؟ أيكون ذلك اختزالاً؟ كما لو كان الأمر يتلخص في ذلك، من ينظر وكيف ينظر…؟ كما لو كان بوسعنا تغيير ذلك، العيون في مساراتها، ببضعة كلمات مرتعشة.
عندما نطرق أبواب الكتابة، كما قلنا، نطرقها محنيين، متقوقعين. فهي بطبعها تأتي من أعمق الدواخل، نعتصر ذاتنا عصراً حتى يتصبب ذلك الحبر على الورق. لذا، لم نتفق على ضرورة معيّنة يجب أن تحذو حذوها الكتاباتُ. إن كنت تريد(ين) أن تقولـ(ـي) أنك مغرومـ(ـة) بمحمد وأن محمد أضاع نظارته وعكازه في بئر غويط، أو في سفح وادٍ، أو فرمها سائق أهوج، وأن تلك كانت أول مرة تمد(ين) فيها له يدك، لترشد(يـ)ـه، وأن هذا كل ما يحرق راحتيك، ويسكب الهالات تحت عينيك، ويلهب شفتيك بتدفق الكلام، لا أحد يستطيع أن يقول لك، راجعـ(ـي) نفسك، نَصّك لا يقع ضمن أولوياتنا.
أولوياتنا أنت يا صانع النصوص الفريد، يا من تفعم كلماتك بالحيوية والألوان، تنقع فيها سواد قهوتك، تنفخ فيها من روحك. أنت يا من تنظم قصائد وقصصاً لا تقتصر على الندب والولولة، متحركة، متجددة، وأنت يا من تسخر من واقعنا وتتلاعب بالمسلّمات والحقائق والأحكام المسبقة على العرب والأقباط والأمازيغ والمسلمين وسكان المعادي واليهود والمهاجرين والدروز، كل تلك الأطياف.
في العدد الأول، نفتح المجال، لا موضوع محدد. لم نسعَ لتوحيد المحتوى لأن نيتنا في الوقت الراهن ليست تعريف توجهنا الأدبي أو اتخاذ موقف من الأدب الموجود. لا نسعى لارتداء ثوب الثوريين أو الكافرين بكل ما سبق، لا نطمح لذلك… ربما لأن ليس في مقدورنا أن نجيب بدقة على أسئلة من قبيل: أين يقع الأدب الذي يُنتج عن تلك المنطقة؟ إلام آل؟ أين يتجه خط سيره؟ في أي “توجيهـ(ـات)” نريد أن نساهم؟ وما هي طبيعة علاقتنا به؟ لم نحسم معايير المصداقية، أو الموضوع الطارئ، أو الشخصية الواقعية، أو اللغة السليمة، أو اللغة المتعثّرة، أو تلك التي تدمج لغة الشارع واللهجات النيئة في النص المكتوب. لم نحسم شيئاً بعد. نبقى في حالة ترقّب مِضياف. نريد أولاً أن نستقبل بغزارة. ذلك تَصَوُّرُنا للفصل الأول من تاريخ أسامينا.