أخيراً شاهدت مسرحية “1980 وانت طالع”. عدا الأصداء المترامية عن كون تلك المسرحية عمل شبابي جيد يستحق التشجيع، لم يقع تحت يدي أي نقد حقيقي لهذا العمل. فلما اطّلعت عليه واستوقفتني فيه أشياء كثيرة، قررت أن أكتب نقدي الشخصي له، مع العلم أني لست بخبير في المسرح. المسرحية تُعرض منذ سنتين تقريباً، كتبها محمود جمال وأخرجها محمد جبر، ويقوم ببطولتها ثلاث شابات وما يقارب العشر شبان، ولدوا من سنة “1980 وانت طالع”، وتتناول المسرحية إحباطاتهم وأحلامهم وإحساسهم بالظلم والقهر في بلد لم توفر لهم سوى المصاعب والعقبات ووجع القلب. لا خيط سردي يربط المشاهد ببعضها، فالمسرحية عبارة عن “سكيتشات” متفرقة لا تمت لبعضها بصلة سوى أن كلها تتمحور حول “مشاكل الشباب”.
مجرد عزيمة هذه المجموعة وإرادتها تستحق الثناء والتشجيع. فمسرح الهوسابير الذي يأوي العرض متهالك جداً، ومن الواضح أن إنتاج المسرحية محدود لأبعد حد، والجمهور لا يتردد في الصخب بأكياس الشيبسي والتجويد المسموع في نكات المسرحية والتعبير عن كل ما يشعر به من فرحة أو استياء من اللحظات الحزينة أو ملل أو جوع أو رغبة في قضاء الحاجة. وبالرغم من كل ذلك، نجحت تلك المجموعة في تقديم عمل ذي قيمة بأداء متمكن، يفوق جودةً مشروعاً آخر حظى بكل ما حُرم منه هذا العمل، بدون ذكر أسماء: “مسرح مصر”… ولكن!
ولكن لا يسعني أن أمنع نفسي من انتقاد بعض العناصر، أو بصراحة الكثير من العناصر، لأني ألتمس فيهم المزيد. سأتطرق لنوعية الكوميديا التي تعرضها المسرحية، ثم إلى المكوّن العاطفي فيها، المزنوق في ركن “الفن الهادف”، ثم إلى ما أحببته في لغتها المسرحية، وأخيراً إلى ما تعكسه المسرحية عن وضع المرأة، من خلال دور الممثلات وطبيعة المواضيع.
متلازمة اللفظ في الكوميديا المصرية
المسرحية في أغلبها كوميدية، بمعنى أن برغم المقاطع الجادة – التي سأتوقف عندها بعد قليل – معظم المشاهد والتفاعلات يهدف لإضحاك الجمهور. ساحة الكوميديا في مصر، سواء مسرحياً (“مسرح مصر”) أو سينمائياً (أفلام العيد)، تعج بالكوميديا اللفظية، أو بالمصرية، كوميديا “السف”. أي أن كل محاولات خلق الطرافة معتمدة على تبادل “القلش” (puns)، أو السخرية من مظاهر الآخرين، أو صفعهم على وجوههم، أو المبالغات، أو المقارنات العبثية التي يمررها الممثلون لبعضهم (“انت محسسني إن انت كذا كذا”، “قال يعني أنا اللي كذا كذا”)، ويخلو العمل من أي إبداع في تصميم المواقف أو في هندسة الغرابة أو في استخدام الوسيط البصري من أساسه. لذا سعدت عندما وجدت بعضاً من تلك الكوميديا الموقفية أو البصرية في المسرحية: فالحركة على المسرح جيدة ورشيقة وأحياناً هي التي تقود الكوميديا كما حدث مثلاً في مشهد الصديقين اللذان يعجزان عن القفز والصراخ في الصحراء، أو مشهد مندوبَي المبيعات اللذان يلتقيان أثناء عملهما ويحاول واحدٌ منهم بيع منتجاته للآخر قبل أن يعرف أنه يمتهن نفس مهنته؛ وبفضل نشاط الممثلين وطاقة الحوار لم أشعر بأي انزعاج من انعدام الإمكانيات المادية؛ كما تُسخَّر تركيبة المواقف أحياناً لخلق الكوميديا: مثلاً عندما وقع منهم قرش الحشيش في الظلام الدامس وهم على قمة الهرم، أو عندما اُستخدِمت الإضاءة لتقسيم مشهد الخطيبين إلى ومضات متتالية تلعب على مباغتة المُشاهد وسبق توقعاته.
ولكن في رأيي يبقى “السف” غالباً، أو على الأقل يتقاسم الكوميديا مع طرافة المواقف. وهذا ثقيل على قلبي بعض الشيء: لأنه يشعرني بالاستسهال فيجعلني لا أرى فارقاً جوهرياً بين مشاهدتي للعمل وبين جلسة مرحة مع أصدقائي مليئة بـ”السف” بعد يوم مرهق، ولأن ذلك النوع من الكوميديا يميل بشدة للسخرية من البشر “المختلفين”: البدانة، قصر القامة، اللون، وأي خصائص أخرى غير “عادية”، هي مادة خام مفضلة لهذا التوجه الكوميدي. ولم تكن المسرحية استثناءً لذلك الفقر، حتى وإن كان بشكل أقل فجاجة وأكثر طرافةً من المعتاد. ربما أكثر ما يعبر عما أود قوله هو مشهد الشباب الذين تجمعوا بعد طول فراق على قمة الهرم، وبعد أن تناولوا بعض المخدرات، يمسكون في مزحة متجددة على أذني واحد منهم، ولا يبرحونها لمدة عشر دقائق. في بادئ الأمر، لم أنزعج لأني لم أفهم أصلاً أن ذلك الاستهزاء مبني على هيئة أذنيه فعلاً، لأن من بعيد لم يبد لي أن أذني الشاب المعني منفصلة أو كبيرة فوق العادة، فضحكت مع هزارهم الذكي الذي أرجعت إطالته وإصراره لفكرة أنهم “محششين”، وكان هذا مضحكاً بالنسبة لي، ولكن عندما تغيّرت الإضاءة، تبين لي أن أذنيه بالفعل منفصلة قليلاً عن رأسه… فاضطربت، وشعرت بالذنب. واكتملت الحلقة في ذهني لما وضعت هذا الإفيه جنب أخيه قبل دقائق، عندما قارنوا حبيبة أحدهم السابقة بمن “داس على وشها قَطْر”، وقبل ذلك في مشهد آخر عندما وظفوا قِصَر إحدى الممثلات لإفيه رخيص.
يا ليتهم أكملوا جميلهم واعتنوا بجودة المحتوى الكوميدي حتى النهاية.
العاطفة والفن الهادف
على صعيد آخر، على مدار ثلاث ساعات عرض المسرحية، شعرت أن هناك رغبة حثيثة تلتصق بالعمل كما العلكة الذائبة، ومن الواضح أنها أرّقت القائمين على العمل قبل أن تضايقني أنا شخصياً، رغبة في تحويل العمل إلى عمل “هادف”، “فن محترم كده”. وذلك يؤدي إلى تعامل ساذج مع العاطفة طوال المسرحية، وإلى انتهاج استراتيجية آسَفُ لوصفها بالمفتعلة، لتحريك تعاطف الجمهور.
في رأيي، الفنان المصري مازال غير قادر على التصالح مع إنتاج أي محتوى فنيّ لا يخدّم على قضية معينة، غير قادر على التصالح مع فكرة الفن “وخلاص”، بمعنى تسليط النور على ما لا تراه العين العادية، بشكل مبتكر ومسلٍّ، أو خلْق ما يجذب اهتمامك لغرابته أو جماله، والتوقف عند ذلك. لا بد للفن أن يكون هادفاً! لذلك تجد محمد هنيدي ينهي أفلامه دائمة بربط قصة الفيلم بالقضية الفلسطينية في آخر سبع دقائق، أو تفكك العرب، من حيث لا تحتسب، لأنه عاجز عن الاكتفاء بما يقدمه من محتوى هزلي، ضميره يؤنبه، وتجد أشرف عبد الباقي يختتم مسرحيات “مسرح مصر” بحكمة مهترئة من نوعية “أحلى من الشرف مفيش”.
وحتى في عمل مثل مسرحية “1980 وانت طالع”، حيث تعبّر المواقف الكوميدية في حد ذاتها عن معاناة الشابـ(ـة) المصريـ(ـة)، دون الحاجة لترصيعها بالمقاطع “الهادفة” على خلفية موسيقى مأساوية جديرة بتقارير ريهام سعيد، لم يستطع القائمون عن العمل مقاومة إغراء “الفن الهادف”. كانت النتيجة مشاهد تنتقل بدون مقدمات من الهزل إلى الجد الميلودرامي حيث يسلّط الضوء على بطل المشهد ويقوم برص مشكلته بانفعال في مونولوج “هادف” عاطفي أليم ينتهي بانتزاع التصفيق انتزاعاً من أيادي المتفرجين، ثم انتقالاً لا يقل عن سالفه عنفاً إلى الضحك مرة أخرى، كأن السيناريست والمخرج يودان مصالحة الجمهور واسترضاءه قبل أن يغضب من الإطالة في المأساويات، مقتدين بمسرحيات محمد صبحي. وكانت النتيجة أيضاً، كما سبق وأشرت، استعمالاً مبالغاً فيه للموسيقى الحزينة المليئة بالكمان والبيانو لتضخيم الجانب الحزين “الهادف” في آخر كل مشهد تقريباً، وسَوْق المُشاهد سوقاً للتأثر، ولزرع فكرة أن “احنا مش جاييين نهزر وبس” عنده، فيرتاح ضميره ويرضى الفنان عن نفسه، ونضرب عصفورين بحجر.
تزيد من فقر الإدارة العاطفية للمسرحية طريقة تجميع وتوالي المشاهد أو “السكيتشات”. المسرحية عبارة عن “سكيتشات” غير مترابطة، ولا بأس في ذلك، لكن البأس في غياب حتى خيط عاطفي يتطوّر بمشاعر المتفرج أو يحاول خلق حالة حسية معينة. شعرت بعدم تحكم كلما ذهبنا من مشهد إلى آخر، بالذات في آخر المسرحية، كأني كنت أكبس بالخطأ زر تغيير القنوات على الريموت كونترول. في آخر المسرحية، بعد مرور ساعتين أو يزيد، كنا نمر من مشهد “خفيف” إلى آخر “عميق” تتصاعد فيه المشاعر، فأتوقع أن توضع نقطة النهاية هنا، فنعود إلى مشهد كوميدي عن المناقرة بين الجنسين، ثم إلى آخر ملحمي النزعة، ثم إلى آخر فلسفي لا شأن له بما سبق، بدون سبق إصرار ولا ترصّد، وكأن المقصود هو تتويه عاطفة المُشاهد.
ولكن من ناحية أخرى، الحق يقال، كان لتلك الرغبة في تقديم عمل “هادف”، آثار جانبية جيدة. فقرب نهاية المسرحية، كان هناك مشهد روى فيه الممثلون ما حدث في مصر منذ ثورة 2011 من منظورهم، في شكل أغاني اتسم كلامها بالخفة والسلاسة، على ألحان راقصة مأخوذة من مصادر قديمة معروفة للجمهور كأغاني “ثلاثي أضواء المسرح” أو أوبريت “الليلة الكبيرة”. الأغاني كانت في غاية الظرف، وأعجبني تحديث الكلمات والتفاعلات والإسقاطات بين الممثلين لتتماشى الأغاني وما بينها مع أوضاع البلاد الراهنة.
اللغة المسرحية ناجحة
رغم بعض الهفوات، اللغة المسرحية غنية وخفيفة في المجمل. كوميديا التكرار كانت متأرجحة ما بين الإتقان والسخافة، ولكن غلب عليها الإتقان، أو على الأقل تميزت بإنهاء التكرار بطرق غير متوقعة. كانت هناك إيحاءات مجازية ساذجة بعض الشيء، مثل رمزية الضباب إلى الأسئلة الوجودية التي تواجه كل شاب، ولكن كانت هناك أيضاً المبتكرة منها، مثل مشهد جلسة التحشيش على الهرم الذي اُستغِلَّ لتصوير التعاون والتكاتف في آخره، أو مشهد الشاب المقتول الذي يعود ليروي حكايته المتخبطة وسط شخصيات ترمز كلٌ منها إلى فصيل من فصائل المجتمع.
وربما أكثر مشهد أثّر فيّ بلغته المسرحية، كان مشهد الفتاتين الواقفتين في جانبي المسرح، واللتين يتناوب عليهما الرجال ليمارسوا عليهم القهر بكلامهم (“أنا عايزك تاخدي بالك من جوزك وبيتك” فترد “بس أنا من حقي أحلم!”، يستجوبها “كنتِ بتخرجي معاه فين أيام ما كنتم بتحبوا بعض؟ كان بيلمسك فين؟”، فتستغيث “أنا دلوقتي بحبك انتَ”، فيجاوب “باهزر معاكِ!”)، وبينما تردّان بالكلام إلا أنهما تعجزان عن الحركة، ويحرك الرجال أياديهما كيفما شاؤوا، كما الـ”ماريونيت”. يأخذني هذا الـسكيتش القوي إلى آخر نقطة أود الحديث عنها: المرأة. ففي نظري، مبادئ هذا السكيتش “النسوي” إن جاز القول، تتضارب بضراوة مع دور المرأة الذي تصوّره، وترتضيه تماماً، المسرحية.
حتمية نموذج شخصية سَحَر في مسرحية “العيال كبرت”
المسرحية تكشف عن علاقة الشباب المعقدة، المتناقضة، ذات الجوانب المظلمة المتعددة، مع المرأة. وعندما أقول الشباب أعني الأولاد منهم والبنات. لما انتهى مشهد تكتيف البنتين، الذي عبّر بأناقة عن كل ما تفتقده المرأة في مصر من استقلال وحرية وكرامة، توسمت فيهم خيراً… لكني فوجئت أن المسرحية وحوارها ومخرجها وأبطالها متصالحون كل التصالح مع أفكار أخرى تساهم بثقل في سلب نفس ذلك الاستقلال ونفس تلك الحرية والكرامة. طبعاً لست منزعجاً من كشف قهر النساء وعدم المساواة في مشاهد المسرحية، لأن لا ضرر من تصوير الواقع، إنما يزعجني عدم اتخاذ أي مسافة واعية بالنسبة لمؤشرات المنظومة الذكورية تلك. يزعجني التصالح مع تلك الأفكار، يزعجني غياب العين الناقدة التي تدرك التناقضات، غياب العين “الحساسة” لهذا القهر. فكان المشهد الذي يعبّر عن صعوبة الزواج في مصر يدور حول الفكرة الـ”funny خالص” أن البنت تطالب خطيبها بشراء الشقة وهو “يا عيني” لا حول له ولا قوة وتمر السنين وتموت خطيبته وهو لم يشترِ لهم الشقة بعدُ (كان هذا مشهد الومضات الذي أعجبني تقنياً)، ومن الطبيعي جداً أن تكون هي التي تطلب وتلح وتحلم وهو المطالب بتلبية احتياجاتها المادية، رغم كل ما قيل سابقاً عن “إني زيي زيَّك” و”من حقي أنجح ويكون لي كياني”. وبشكل مشابه، انتهى مشهد مندوب المبيعات الذي يعمل حتى تؤلمه قدماه ليجمع مصاريف الزواج، وتأتي حبيبته لتشاركه مأساتها التي تتلخص في أنها “واقفة في المحطة مستنية وهو مش بيعدي ياخدها” (نعم استعملت هذا التشبيه) وأن “الشعر الأبيض ابتدى يطلع في شعرها” وأن “نظرات الناس بتجرحها” لأنها لم تتزوج بعد وهي تقترب من الثلاثين. وأنا صراحةً لا أدري عن أي استقلال ومساواة وحرية نتحدث، إن كنا ما زلنا محشورين في عنق زجاجة تبعية المرأة المادية للرجل، وما زالت المرأة أقصى حلمها أن تتزوج “بقى” بينما الرجل هو من يتولى رعاية البيت والصرف عليه… وكذلك سكيتش الشاب الذي ينغّص عليه أصدقاؤه فرحتَه بخطوبته معددين له كل المصاريف التي “سيكعها” في الفسح والهدايا لحبيبته في المناسبات والهدايا لحماته، إلخ إلخ. أين المرأة من كل ذلك؟
أقول لكم أين المرأة. المرأة موجودة مثلاً في مشهد مطابق شكلياً لمشهد “هتجيب الشقة إمتى؟” إلا أنه يتناول هذا المرة فكرة أن المرأة كائن نكدي غير مفهوم بطبعه، فيتكرر سؤال حبيبته له “انتَ قصدك إن أنا نكدية؟”، وبعد أن تفاداه طوال المشهد، تنتهي الفقرة بنفاد صبره وقوله “أيوة انتِ نكدية وكل الستات نكديين”، فيصفق الذكور من الحاضرين بحرارة إزاء الاعتراف بتلك “الحقيقة الأبدية”، التي ترسخ عدم المساواة وتضفي على قهر النساء شرعية غير مباشرة. أو موجودة مثلاً في مشهدٍ تكرر كذا مرة في المسرحية، مشهد يلتقطون فيه “سيلفي” ويتحدث كلٌ منهم عن مشكلة ما تشغل باله في جملة أو اثنتين، يسيطر الرجال على مجريات المشهد، وتخيلوا بماذا جاد الكاتب على واحدة من البنات؟ بينما يحلم الرجال بمستقبل أفضل وبالهجرة وبزوال قمع السلطة وبالتحرر من جلاليب آبائهم، ما هي مشكلة هذه البنت وما هو حلمها؟ تقول ” كان نفسي أبويا يعيش لحد ما يسلمني بإيده لعريسي”، هذا هو أقصى أمنياتها وكل ما يُسهدها، كأنها حمولة تنتظر من يحملها إلى المخزن.
هكذا هي المرأة في هذه المسرحية، وهكذا هي في معظم أعمالنا الفنية. جزء من حلم الرجل، زوج أو أب، جزء من قصته، من نكتته. ما يزيد الطين بلة هو طبيعة الدور المنوط بالممثلات القليلات في المسرحية، وبالمناسبة هذا لا يقتصر على مصر أو البلدان المحيطة، بل يخص الغرب أيضاً، وهو ما يمكن تسميته بـ”لعنة سَحَر في العيال كبرت”. شخصية سحر في مسرحية “العيال كبرت”، التي قامت بتأديتها الممثلة نادية شكري (وأزعم أن معظمنا يكتشف اسمها لأول مرة)، كانت خير مثال على الدور الذي يتكرم به المجتمع الذكوري على المرأة في السينما والمسرح والتليفزيون، خصوصاً الأعمال الكوميدية. سحر لم تقل نكتةً واحدة طوال المسرحية، رغم أنها واحدة من الأبناء يعني، وحتى الموقف المضحك اليتيم الذي يدور حولها، عندما كانت تريد أن تحترف الرقص الشرقي ووافقها أخوها وتولى عرض المسألة على أبيهما، لم يكن الأمر سوى فرصة لسعيد صالح وحسن مصطفى لتبادل النكات، بينما تقبع هي في صمت تنتظر انتهاء المزاح لتتدخل في آخر الموقف معترضةً قبل أن تصعد إلى غرفتها. وهكذا كان دورها طيلة المسرحية: لا تعدو كونها جزءاً من السياق، أو سطحاً أملس لارتداد الدعابات التي لا تشترك في صنعها، كما نِصف طاولة تنس طاولة مطوية يستخدمها اللاعب ليتدرب وحده. وكذلك دور كريمة مختار (الأم)، التي كانت لا تزال تتعلم التمثيل آنذاك، والتي لم تنتج أي طُرفة بمفردها، بل كان الأبناء يسخرون من سذاجتها وطيبتها لإضحاك الجمهور عليها، وليس معها. وهكذا كان دور الممثلات في “1980 وانت طالع”.
عددهن ثلث عدد الذكور، ووجودهن غالباً ما يكون كجزء من صعوبة العيش للشاب الذكر، سواء بصفتها خطيبته التي تطالبه بالشقة، أو بالإسراع في طلب يدها قبل أن تعنس و”الناس تاكل وشها”، أو تنكد عليه حياته بطباعها المتقلبة، إلى آخره، وقلما يساهمن في صنع الضحك الذي يهيمن عليه الرجال. هناك سلطة لا يستهان بها في القدرة على الإضحاك وقيادة المُشاهد إلى الخروج من وقاره والاندماج في الضحك، ولا زال الرجل يأبى التنازل عن هذا الامتياز للمرأة ويحافظ على احتكاره له، وعلى كل حال “معظم الستات لا يُضحكن، ونكديات أصلاً”، فبالتالي هذا الوضع الطبيعي للأمور.
أمّا عن كيفية توافق تلك العناصر مع مشهد تحريك المرأة في بداية المسرحية، فيبدو لي أن ذلك نابع من عدم مد الخط على استقامته، من عدم القدرة على الـextrapolation التي تؤدي لمثل تلك التناقضات ولهذه الدرجة من عدم الوعي بها، أو تطبيعها بهذا الشكل. من حقها أن تحلم، نعم، تحلم أن تكون رسامة أو مهندسة ديكور أو حتى طبيبة (إن ابتعدت عن تخصص أمراض الذكورة)، ولكن يبقى الرجل هو الذي يعيل البيت بمرتبه الأكبر ويبتاع الهدايا ويشتري الشقة ولا جدال في ذلك. من حق المرأة أن يكون لها علاقات سابقة، ولكن هناك حدود الكل يعرفها، لن نخوض فيها. من حقها أن تخرج من البيت وتشوف الدنيا، طبعاً، ولكن بمعرفة زوجها وبشرط ألا تتأخر أكثر من اللزوم. من حقها أن تكشف شعرها دون أن ينهشها الناس بنظراتهم، بالطبع، ولكن في إطار الأعراف المعروفة للكل. من حقها أن تشارك في عمل كوميدي، أكيد، لكنها لن تقوده يعني، وهي أصلاً نكدة الطباع باعترافها الشخصي، الضحك ده “بتاع الرجالة”. ومن المؤكد لديها أحلام وطموحات، ولكن يبقى أهم أحلامها، “زي أي بنت”، هو الخروج من بيت أبيها والارتباط بابن الحلال وارتداء الفستان الأبيض.
طبعاً أنا أبسّط الموضوع وأرسم خطوط المشكلة بشكل كاريكاتيري، ولكن أظن أن فكرتي وضحت. الخط لا يُمدّ على استقامته، وما زلنا نتفنن، إرادياً ولا إرادياً، في وضع القيود المرئية والغير مرئية لمنع تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة ومنع المرأة من تحقيق ذاتها، حتى في المسرحيات.
خلاصة القول
وسط كل المعوقات من انعدام الموارد إلى وقاحة الجمهور إلى وجودهم في مصر أساساً بكل ما يترتب على ذلك من مؤثرات، “1980 وانت طالع” محاولة تُحسب لأصحابها. العمل متحرر من سلطوية اللفظ في الكوميديا المصرية ولغته المسرحية حسنة، وإن كان يفتقر للشياكة في تناول العاطفة، واقعاً في فخ الميلودرامية المبذولة أحياناً، ويظلم المرأة رغم حسن نواياه. رغم مآخذي عليه، أرى أن المنتج عمل جيد وخفيف الظل، ويستحق المشاهدة. إن لم يكن لما فيه من مزايا، فربما لما فيه من عيوب.