قطتي الزنجية

مستكة. قطتي اسمها مستكة، وسأتحدث في هذا المقال عنها. لِمَ لا وهي تستحق الإطراء والثناء، على شكلها وطبعها… بشعرها الكثيف الكستنائي، الذي تلمس نعومته دون أن تلمسه. شعرها الذي يتداخل فيه البني بدرجاته مع الرمادي تداخلاً فريداً أنيقاً. ووجهها البريء الطفولي، ذي العينين المنكسرة التي تنضح بالطيبة والسلام. من القطط القليلة التي تعبر لك عن حبها وتعلقها بك. تسترخي معظم وقتها، وعندما تلعب، لا يسعك إلا أن تبتسم وتشعر ببهجة خفية خافتة تتسلل إليك، وأنت تشاهدها في انطلاقها العفوي وتركيزها الخالص.

لا أستطيع أن أمنع نفسي من التغني بجمال هذا الكائن عندما تنفتح سيرة القطط، كما فعلت في مقدمة هذا المقال. وهكذا حال أبي، الذي يعشقها عشقاً جماً. وبرغم كل هذا، لا شخص نعرفه تقريباً لم يعرب عن استيائه من شكلها، بالذات لونها. وتتعدد أساليب إبداء هذا الاستنكار، ما بين الاستحياء والاستهزاء القطعي والسخرية بأنواعها. ولكن الانطباع واحد. مستكة قطة “وِحشة”. يضيق صدري كلما سمعتُ تلك التعليقات المتكررة من قبيل:

يا ساتر.

إيه ده؟ دي سودا!!

دي أكيد مبتبانش في الضلمة، صح؟ ههههههههه.

يا ربي، شكلها مخيف!

ده حتى فال وحش يا جماعة!

ما لقيتوش غير اللون ده؟

لا أدعي أبداً أن مستكة فيها عناصر الجمال المطلق، أو أن من المستحيل أن يختلف عاقلان على سحرها. لا أقول هذا، لأني لا أومن أصلاً بفكرة الجمال المطلق، ولأن الناس فيما يعشقونَ، مذاهبُ. ولكن ما يدهشني ويحزنني هو إجماع كل معارفنا على قباحتها، وإنها “ما تجيش حاجة” في حلاوة وملاحة القطط شاهقة البياض، بل وإنها مخيفة، ومجرد النظر إليها يسبب عدم الإرتياح… ودائماً ما يستند الذم على لونها الغامق.

ما سر هذا الإجماع الجارح؟ لماذا يضطهدون مستكة، القطة البريئة؟ لماذا يراها الكل ــ تقريباً ــ قبيحة ومثيرة للرهبة؟ ويرانا نحن مجانين ذوي ذوق رديء لأننا اقتنينا هذا الكائن البغيض، بل ونحبه قلباً وقالباً أيضاً؟! لمَ هذا العنف الجمعي…؟

ليست الإجابة باكتشاف جديد. تتلخص في استنتاج، مرةً أخرى، أننا مجتمع عنصري “بطبعه”. وتأخذ العنصرية هنا شكل النفور من صاحبي اللون الأسود (وعلى فكرة مستكة ليست سوداء، لونها بني داكن في مجمله)، لمجرد أن لونهم أسود. ويطال النفور أصحاب البشرة الداكنة عامةً، بشكل متزايد مع اقتراب لونهم من الأسود.

لا تقولوا لي أن المسألة مسألة ذوق، أو أن “القرد في عين أمه غزال” فلذلك تراها جميلة، وأن فيما عدا لونها فالناس باستطاعتهم تقبلها وحبها واللعب معها. فالإجماع غريب! ولا يكون الأمر تعبيراً عن رأي بسيط حميد في لونها، بل دائماً يصاحبه ما يشبه القرف والتأفف، بدرجات مختلفة. نفور، كما أُنزل، لا يحركه سوى لون مستكة الغامق.

ومستكة ليست إلا مثالاً بسيطاً لما تجنيه العنصرية في المجتمع. بسيطاً، ولكن فاضحاً، مربكاً…

النفور المبدئي من شخص أو كائن، لمجرد لون بشرته أو عرقه أو دينه أو جنسه، أو ما يعرف بالعنصرية، ظاهرة خطيرة. هذه حقيقة بديهية. على مر العصور، فككت العنصرية مجتمعات وأبادت شعوب وانتهكت حقوق وأسالت دماء، وليس في مصر فقط، بالطبع.

في بلادٍ أخرى ــ يتضاءل عددها الآن مع ازدياد شعبية الأفكار اليمينية في العالم ــ تفتّق ذهن البشر عن حلول غير العنصرية لإدارة الاختلاف. فباتت العنصرية، على الأقل، مُجرَّمة. يعني حتى وإن كانت لا تزال حية، يغذّيها الجهل والتهميش ويقتات عليها بعض السياسيين، ولكنها تبقى سيئة السمعة، لا يمكن المجاهرة بها صراحةً، وإن كنت ستفعل فلا بد أن تتحسس طريقك بحرص بالغ، ومن الصعب دمجها “على المكشوف” في الحياة اليومية. وإن كان فوز ترامب قد يغيّر تلك المعطيات…

أما عندنا، الإضافة، “التِرِكَّة”، هي تطبيع العنصرية، أو تجاهل المشكلة أصلاً. يتغاضى المجتمع (كما الدولة في كثير من الأحيان) عن معتقدات عنصرية كثيرة، تضرب جذورها في الثقافة المصرية. لا إدانة صريحة لها، ولا وعي حقيقي بوجودها أساساً، فتجدها تتسلل لتفاعلاتنا اليومية بمنتهى السلاسة. لا يحرك أحدٌ ساكناً لردعها، بل ندع لها المجال كي تطلق العنان لطاقتها، إلا ما ندر. وهذا التسامح الخفي مع العنصرية يؤمن بقاءها، بكامل قوتها، ويضمن مقاومتها لصدى التغيير. لذا، فمن الطبيعي جداً أن نبغض السود، أو نشمئز منهم “على خفيف كده”، ونحتقر الزبالين والبوابين فنضرب بهم المثل للدلالة على الوضاعة، ونجاهر بيقيننا أن المسيحيين سيدخلون النار لا محالة، وأن دينهم مُحرَّف، ونكره اليهود، ونعتبر الشيعة “أنجاساً” محتالين، ونقمع الملحدين، ونقهر النساء.

مستكة المسكينة، المستكينة، ونحن أصحابها، بُلينا بالنفور من السود، الذي هو مجرد انعكاس بسيط للعنصرية الشاملة التي تغلف مجتمعنا. تصوروا، جدتي، أطيب مخلوق على وجه الأرض، الذكية المثقفة، المحبة المعطاءة، عندما نشاهد مباراة كرة قدم في التليفزيون، وتأتي الكاميرا على لاعب أسود، لا تستطيع منع نفسها من قول: “أنا ما بحبش الزنوج… شكلهم بيضايقني كده…”. كذلك شخص آخر قريب إلى قلبي لن أذكره هنا، مثقف وذكي أيضاً، وعلمني الكثير، أمي من الآخر، لا تحب “الزنوج” هي الأخرى، وكثيرون آخرون. أو عندما نكون مجموعة نشاهد مسابقة ملكات جمال مثلاً، وتبلغ فتاة سوداء النهائيات، من المستحيل ألا ينطق أحد الجالسين بالتعليق إياه: “دي سودا! معقول يكسبوا دي ويسيبوا القمر الأبيض ده؟”، وأحياناً يكون رامي التعليق يدعي أنه متفتح و”كْيُوت” وكل حاجة…

تلك العنصرية لها وجه آخر يتجلى في تقديس البياض، واعتبار البشرة الفاتحة، وما قد يصاحبها من شعر أصفر وعيون خضراء، هي معايير الجمال المطلق. عندما يولد طفل ونري أن عيونه خضراء أو زرقاء، أو أن شعره أشقر، نسارع بقول: “بسم الله ما شاء الله!”. نخاف أن نحسده على حلاوته، فلقد حالفه الحظ ورزقه الله بأعلى صور الجمال. أما إذا كانت بشرته داكنة مثلاً، فنكتم أسفنا، ونكتفي بالمجاملة المصطنعة الكاذبة. بلاش، السمراوات في مجتمعنا، مهما كانت ملامحهن فاتنة، عادة ما يبذلن قصارى جهدهن لتفتيح بشرتهن. “كريمات” و”ماسكات” وجلسات. مستعدات لفعل المستحيل للوصول إلى المثل الأعلى في الجمال: الفتاة الشقراء، يا بختها. لا أحد يحب أن يقال عليه “محروقاً”، ذلك اللفظ الذي كثيراً ما نستخدمه لوصف ذوي البشرة السوداء، بلهجة مازحة لا تعي حجم الشر الذي اقترفته.

عنصرية اللون من مخلفات الاستعمار. اجتاح الاستعمار بلادنا، ومنطقة الشرق الأوسط ككل، فعششت في أدمغتنا. فالأبيض المستعمر كان صاحب المال والجاه، في يده السلطة وكلمته نافذة. هو المتحكم المتمكن، المتعلم، الأنيق، النظيف. وارتبطت كل تلك الصفات المنشودة بلون بشرته، لأن هذا الاختلاف الأبسط والأكثر وضوحاً بينه وبين السكان الأصليين، الفقراء، المتربين، الجهلاء، المحكومين الضعفاء. ومع الوقت، توطد ارتباط لون البشرة بصفات من هذا النوع، لا دخل لها من قريب ولا من بعيد باللون، ويساهم في استقرار ذلك الارتباط كَونُ العلاقة بيننا وبين “الغرب الأبيض” ما زالت علاقة شبه استعمارية، الأبيض فيها هو المسيطر المهيمن الشامخ، والداكن هو المسكين المتسخ، الذي يسعى للهروب إلى أرض البيض.

ذلك الربط السيكولوجي المؤسف، السطحي المغلوط، بين اللون والحقائق السياسية الاجتماعية، استقى من تاريخنا، ليس فقط الاستعماري، ولا يزال حاضرنا يمدُّ في أجله. مثلاً، عندما اشتغل النوبيون، ذوو البشرة السوداء، كبوابين و”سفرجية” في مصر في منتصف القرن الماضي، بعد ما محى الإنجليز ثم عبد الناصر قراهم من على وجه الأرض، أصبحنا نحترم النوبيين أقل، هم والسود بشكل عام. يعني عنصرية 2×1، لون وطبقية: ممثلو لون بشرتهم في قاع المجتمع، فكيف نحترمهم هم أو سائر السود؟ والآن، ونحن عالم ثالث فاشل، أسمر، والغرب أبيض، غني، “متألق”، تستمر المأساة.

عنصرية اللون جزء من منظومة أكبر تسرطن مجتمعنا، ألا وهي رفض الاختلاف. اختلاف الرأي، اختلاف العقيدة، اختلاف اللون، اختلاف الذوق. نحن مجتمع يقهر الاختلاف. وكل واحد منا، حتى من يعاني من نوع ما من قهر الاختلاف في حياته، غالباً ما يمارس نفس ذلك القهر في مجال آخر، لا مفرّ من التنفيس. الأسمر الذي يتحرش به المجتمع، قد تجده يسيء معاملة زوجته، أو يهين بواب عمارته، والابن المتضرر من عدم تقبل أبويه لاختلاف آرائه السياسية، أو ذوقه في اللبس، من الممكن جداً أن تراه يتحكم في أخته الصغيرة ويمارس عليها قهر الدنيا والآخرة، أو تراه ينعت المثليين، أو كل من لا يطبق تعاليم “الرجولة” التقليدية، بالـ”خولات”، وتجد المسيحي يكره المسلم، “لأن المسلمين يكرهوننا”، ويتصرف على أساس ذلك التفكير العنصري، وتجد المسلم يكره المسيحي، “لأن المسيحيين يكرهوننا”، ويتصرف على أساس ذلك التفكير العنصري، وخد من ده كتير…

نخنق أنفسنا بأيدينا، ونشتري الكره والنفور وضيق الأفق والمعيشة الضنكة، بالتسامح وراحة البال والتعايش.

المهم.

سيبك انتِ يا مستكة. مهما حقد الحاقدون، سأظل أحبك… يا قطتي الزنجية.