مرطبات

لحادية عشرة صباحا في نيويورك، العاشرة ليلا في مومباي، و الخامسة مساءا في هذا الحي الشعبي المكتض بالسكان و غير الخاضع لقوانين الدولة و تراتيبها.

كنت جالسا في الشرفة المطلة على النهج الصغير، أقلم أظافري بعد الإستحمام و ألقي بها في الهواء مثلما تلقي عارضة الأزياء برماد السيجارة من خارج سيارتها. تتطاير الأظافر و تنزل إلى أسفل ببطئ، فالريح تتلاعب بها لتستقر على بضاعة أحد الباعة المتجولون الذي يبيع الحلويات الرخيصة بعد أن إتخذ من باب العمارة أصلا تجاريا له.

كنت أقلد رجال الأعمال، أغني بنشاز بعض مقاطع الأوبرا و أتحدث بفرنسيتي الهزيلة إلى القط الذي يراقب كل تصرفاتي بحذر شديد و هو مستعد للقفز إلى شرفة أخرى في أي لحظة. كانت الشرفة واحدة من بين عشرون شرفة مطلة على ذلك النهج، كل شرفة تقريبا تحتوي على كرسي و مزهرية أو إثنين، و حبلا لتعليق الملابس و تجفيفها.

يوم الأحد يوم ممل و تمر ساعاته ببطئ شديد، حيث تقفز القطط من شرفة إلى أخرى لسرقة السمك و التزاوج، و تجلب العصافير القش لبناء منازلها الصغيرة، و تتكأ النسوة على حديد الشرفات و تتحدثن و تتهكمن على أحوال الجيران، غير مباليات بتعاليم الدين و لا بتربية الأجداد، و يمضين يومهن في مضغ العلكة بشغف و صنع كرة هوائية صغيرة يفجرنها بسرعة حتى تصدر صوتا يشبه صوت قلي الذرة، و تتلطخ شفاههن بأشلاء العلكة و سرعان ما يلعقنها بألسنتهن و تعدن الكرة مرات أخرى.

كانت الحلاقيم مكسورة و كان ماء الأسطح يتسرب خارجها ليبلل الجدران و الشرفات الصغيرة، فصارت مشققة متداعية للسقوط، و يرفض المالك إصلاح ذلك لأنه يتجنب تكبد مصاريف الصيانة، لأنه يعتمد سياسة تقشف مشددة.

النهج هنا شديد الإكتضاظ رغم صغره، يسلكه البعض كمسافة مختصرة، و ينتصب به البعض الآخر لكثرة الحركة فيه، و توجد به كراسي المقهى الشعبي و أحيانا يصبح فضاءا ليليا لإقامة حفلات الزواج الصاخبة التي تنتهي بعويل النساء المنبإ بشجار عنيف تراق فيه كثير من الدماء.

الشرفة مطلة على شمس العشية المزعجة، و التي لا تعجب الناس بالقدر الذي تعجبهم به شمس الصباح المنعشة و الباعثة على الأمل. الباعة الجوالون يصيحون طول اليوم، فالصياح هو الوسيلة الوحيدة لإشهار منتوجاتهم للعامة، و تفوح من بضاعتهم رائحة شهية كرائحة الأسواق الشعبية، مختلطة بموالات فنانين صادرة من الدكاكين و الشقق.

و أنا أستمع إلى أحد الزبائن الذي عاد إلى الحي بسرعة، يصيح بقوة في وجه بائع المرطبات و يهدده بالإتصال برجال الأمن، لقد عثر الزبون على الأظافر في المرطبات التي إقتناها منذ نصف ساعة، و كاد أن يبتلعها لولا تدخل عامل الفطنة و الإحتياط. عندها، توقفت عن غناء الأوبرا، و إنهمكت في الضحك، دون تأنيب الضمير أو خشية من عقاب الله العسير.