يوم مظلم
جو غائم
طقس بارد
شمس لم تشرق بعد
أرتدي فستان زفاف له ذيل طويل شديد الرقة، شعري غجري كما هو فيبدو أني لم أذهب للكوافير مثلما يفعلن الفتيات في يوم زفافهن، مساحيق التجميل التى أرتديها كثيرة جداً قد تسبب لعينك بعض الزغللة إن كنت تعاني من الإستجماتيزم مثلي، و لكنها ذائبة فتستطيع أن ترى المجرتين الرفيعتين المشبعتين بالسواد أسفل عيني، و ربما كانت البودرة من نوع رديء للغاية فالخدوش التي تزين وجهي ما زالت واضحة … إذا اقتربت مني ستستطيع أن ترى السكين التي أحاول أن أخفيها في طرحة الفستان، ماذا؟ فستاني! انه ملطخ بالدماء من كل جانب! حتى ذيله الرقيق كان يترك أثر الدماء على الرمال كلما تحركت. أسير ببطىء شديد، قد يعكس ثقتي بنفسي أو ربما تؤلمني قدمي قليلاً. يلتف حولي مجموعة من النساء شديدي الجمال و جدتي – رحمها الله – واحدة منهم، و لكن لن تستطيع أن تنظر لهؤلاء النسوة أو حتى تلتفت لجمالهن، فمكياجي الذائب و فستاني الملطخ بالدماء جعلاني جذابة للغاية جاذبة كل العيون إلي. لكن يبدو أني ليست القاتلة الوحيدة هنا، فهناك يرقص مجموعة من الكوبلز كما يطلقون على أنفسهم، ملطخون بالدماء أيضاً و يرقصون باحتراف شديد. أسير ناظرة حولي إلى كل مكان، ربما أبحث عن عريسي، حتى ظهر فجأة هذا الشاب، لا ليس طويل القامة و وسيم المظهر كما تخيلت، بل كان يشبهني كثيراً و كنت على يقين أني رأيت هذا الشخص من قبل، بالطبع رأيته فإنه عريسي و لا يمكن أن تكون هذه أضغاث أحلام. استيقظت فجأة على صوت صراخي، لم يكن كابوساً قبيحا لأصرخ بمبالغها هكذا، و لكني اععتدت على الكوابيس المرافقة ساعات نومي القليلة.
لم يترك الحلم بالي لحظة، بالتحديد وجه جدتي الذي ملأه اللوم. سئمت من هذه الحياة المملة، و فكرت في الانتحار، تذكرت كلمات جدتي حين أوصت أن أُدفن بجانبها. ذهبت إلى قبرها حاملة كمد العالم على عتقي. ذهبت لأدون مقاسات جسدي، و لكني فوجئت حين رفض القبر أن يفعل ذلك. صرخت و نهرته كثيراً، حتى رأيت جدتي، هرولت نحوها مسرعة لأحتضنها فصفعتني بعنف، فدققت في ملامح وجهها لأجد أنها لم تكن جدتي، فابتعدت عنها سريعاً قائلة: “من أنتِ؟”
دمعت عينا المرأة العجوز و قالت: “نسيتيني بعدما تلطخت يديك بالدماء، نسيتيني بعدما قتلتِ أبنائي، نسيتيني بعدما أشعلتي النيران، نسيتيني بعدما هجرتي إخوتكِ، بل قاتلتي إخوتكِ، ألم أعلمكم البِر يوماً؟”
انعقدا حاجبي و قلت باستنكار شديد:”أنا لست قاتلة! أجيبي على سؤالي و أخبريني من أنتِ؟ أأنتِ من رأيتكِ في الحلم؟” قلت تلك الكلمات بصوتٍ مرتجف و أنا على يقين أني قد سبق و رأيتها من قبل.
ابتسمت العجوز ابتسامة استطعت أن أرى فيها حنينها إلى الماضي، ثم قالت بصوتٍ ملأه الحب و الشوق ممزوج ببعضٍ من العتاب: “أنا الماضي الذي دفنتوه، أنا الحضارة و المجد، أنا المعابد و الأديان، أنا النهر و السيول، أنا من يتابع حركتك يا ابنتي، أعلم أنكِ الحاضر و لستِ المستقبل، و لكنكِ لو قتلتي نفسكِ ستقتلين ابنك معكِ، ستدفنين المستقبل، ستهدمينني و تهدمي عالمي، ستمحي وجودي رغم موتي. يا ابنتي، نحن لسنا متضادتين كما زعم معلمو اللغة العربية، بل أنتِ امتدادي، فارجوكي لا تقتليني بطعنتين.”
كم صعب علي أن أشعر أني الحاضر و لست حاضرةً، تألمت لذلك كثيراً ثم انحنيت على الأرض قائلة:
“لقد ثار أبنائي ضدي، فقتلتهم، قتلت المستقبل و أعتمت النور، جئتي متأخرة جداً يا جدتي..”
لم أكن أعلم أن الكلمات تقتل، و لكني رأيت السكين تخرج من طرحة فستاني الأنيق لتصيب حبيبتي بطعنة في صدرها عقب كلماتي، ثم سقطت على الأرض لترتج رجاً…حينها فقط وجدت القبر يدون مقاساتي، و رأيت التراب يسقط على رأسي رويداً رويداً، حتى وأدني التاريخ حية.