عربيُ الزمنِ الذي لا يأتي

«شابٌ أسمر يرتدي عباءةً بيضاء ويطوف الشوارع كشبحٍ عصري يعتلي درّاجة من أحدث طراز». كان ذلك مشهدٌ ضمن تقريرٍ تلفزيوني في إحدى القنوات الأوروبية حول نوعٍ جديدٍ من الدرّجات الهوائية، يجمعُ بين الدرّاجة وبساطَ المشي الموجود عادة في الصالات الرياضية المُغلقة. ولركوب الدرّاجة الجديدة ما على المرء سوى ارتقاء البساط والبدء بالسير حتى تتحرك العجلات بسرعةٍ كبيرة. الدرّاجة المُبتكرة تلقى رواجاً في قَطَر وغَيرها من دولِ الخليج العربي، كما يقول التقرير، على اعتبار أنه يصعب استخدام الدرّاجة الهوائية التقليدية حينما يكون المرء مرتدياً عباءة فضفاضة.

التفكير بـ «عربي المستقبل» يعيد إلى ذهني صورة ذاك الشاب الأسمر على الدّراجة، أيمكن اختصار مستقبل العربي بمشهدٍ مثل ذاك؟ كما لو أنه ليٌّ لذراع الزمن القادم وتطوّيع له للابقاء على ما يُرى جوهرياً في مظهر العربي وهويته.

إذا ما أجرينا عملية حسابية، طرحنا فيها من صورة العربي فناجين القهوة المُرة، الفارس على الجواد، العيون الحور المكحولة، العباءة والعِقَال، المُعلقات والزير وعنترة وتغريبة بني هلال، العبارات المكرورة في دروس التاريخ والتربية القومية عن وحدة الحُلْم والمصير العربي، هل يتبقى من شيء؟ مكمن الحيرة بأن نعم، هناك شيئٌ ما ملتبسٌ وغامض، يبقى مرتبطاً بكنه الهوية، حتى وإن تلاشى كل ما ذُكر مستقبلاً، وهو فيما يبدو آيلٌ إلى الزوال.

كم باديةً يجب أن تمتدَ في روحِ العربيّ كي يكون عربياً؟ وهل يَحتاجُ لإثباتِ هويته خارطةَ نسبٍ إلى قبيلةٍ مغرقةٍ في القدم؟ التدقيق في معنى أن يكونَ المرءُ عربياً بالنَسَبِ أو اللُغَةِ أو الهَمْ السياسي -وفق التقسيماتِ الشائعة- تزيد الهوية بُعداً عن صاحبها، ربما نكتشف بعد كل هذا بأننا لسنا عرباً كما كنّا نظن، أو لسنا عرباً بما يكفي.

الهوية مُلتبسة لأن خلطاً ما يحصل بين العروبة والإسلام، أو بين العرب والمشرقيين. وفي الحالة الأولى يتم تقليص الكل إلى جزء، وفي الثانية تكون العروبة جزءاً من كلٍ أكبر، أكثر تنوعاً وغنى. بحيث يصعب أحياناً تحديد إن كانت الطقوس والمعتقدات والموسيقى والتراث الذي ننتمي إليه إسلامياً فقط أم عربياً أم مشرقياً. لذلك فالسؤال هنا لا يرتبط فقط بمصير الهوية العربية مستقبلاً، بل يتعلق بمآل الهوية «الأصيلة» المُتجذرة للذين ولدوا في شبه الجزيرة العربية والعراق وشرق المتوسط وشمال إفريقيا.

قد تبدو كلمتا “عربي” و”مستقبل” نقيضتان أحياناً، كما لو أن العربي ولكي ينجو ويحجز له مكاناً في المستقبل لا بد أن يكون أقل عربيةً مما هو؛ عليه أن يتخلص من حملٍ ثقيل ويصبح أكثر خفة، وأشد قبولاً، وأقل إشكالية وإثارة للمتاعب.

بالرغم من تفرّع وتعقد الأسئلة حول الهوية. يُريد تيار الثقافة العالمي السائد للعربي أن يجد نفسه اليوم أمام خيارين اثنين. يتمثل أولهما بالتغريب؛ أي الانصهار في بوتقة الثقافة الغربية وإزالة العناصر العربية أو المشرقية غير المرغوبة. فيما يتجلى الخيار الثاني في حالة نقوصٍ إلى الماضي، تقتصر أحياناً على التعلّق الزائف بالجوانب الشكلية من التراث والتقاليد واللباس، أو تأخذ طابعاً مُتطرفاً رجعياً على صورة ردة دينية أو سلفية. وكلا الخياران يُحتّمان بالمعنى العميق «اختفاء» أو «زوال» العربي من لوحة المستقبل. لأن العربي لن يعيش المستقبل حقاً إن كان أسير محاولات محاكاة أسلافه وتمثّل عقليتهم. وهو لن يكون عربياً أيضاً إن تخلّى عن جميع العناصر والخصائص التي تجعله عربياً حقاً، لصالح ثقافة سائدة تصهر جميع الثقافات حتى تُخرج منتجاً رائجاً «وسهل الاستخدام».

المُستقبل مثقلٌ بأسئلة الحاضر، والأزمة بذلك لا تخصُّ العرب وحدهم بل تنسحب على كل الشعوب والحضارات المهددة بخسارة إرثها الثقافي والحضاري أمام العولمة. وبذلك قد يكون الأجدى هنا السؤال عن العناصر الأكثر جوهرية  في هوية الإنسان الحديث الذي صدف بأن وُلد هو أو أجداده في هذه المنطقة التي باتت تسمى مجازاً الوطن العربي. ما المكوّنات الثقافية والسياسية والحضارية التي يجب أن يحملها في حقيبة سفره إلى المستقبل، وما سقط المتاع الذي سيخلّفه وراءه خلال عملية الارتقاء تلك.

الأكيد أن العربية كلغةٍ واحدة من أهم العناصر التي يجب أن تبقى، إن كنّا نتخيّل مستقبلاً لا يخلو من عربٍ. ولكي تستمر لا بد أن تتجاوز الصبغة الدينية التي حفظتها يوماً وأدت إلى تطورها وانتشارها. بحيث تكون لغةً حيّة مِطواعة، لينة، مرحة. لغةٌ مُتَيقظةٌ مستعدة للمخاطرة، غير هيّابة من التغيير.

أما المستقبل، فهو يعرّف أحياناً بأنه الزمن الذي لا يأتي. لأنه وبمجرد أن يقترب يصبح حاضراً ثم ماضياً. كما لو أنه سرابٌ لا يمكن إدراكه، أو لحظةٌ تتسرب بين أصابع اليد. الزمنُ الحقيقي لا يشبهُ زمن السينما؛ لا وجود لآليات القطع والتسريع التي تتجاوز السنوات غير المرغوبة وصولاً إلى لحظة تُسمّى مجازاً «مُستَقبل». لذلك فعربي المُستقبل، هو عربي اليوم الذي يقف حائراً أمام الأسئلة التي تؤرقه: هل يريد أن يكون عربيا بعد؟  وهل يستطيع أن يكون عربياً بحق، متجاوزاً بذلك شتى التنميطات التي كبّله الغرب بها، أو استسلم هو لها طواعية.