حاجة وسخة أقسم بالله. الخوف واللبش ده كله عشان ميتين أم بوسة. بوسة. نفسي أبوس حبيبتي اللي باتنيل أحبها وبتتنيل تحبني، ومش عارف. مينفعش وميصحش وما تجوز ليش ومعرفش ايه. مش عارف أخلي شفايفي تلمس شفايفها، وهما هيموتوا ويلمسوا بعض. يدوقوا بعض. أهيه قاعدة جنبي أهيه… على الكرسي اللي جنبي. قاعدة جنبي والمسافة اللي بيننا زي المسافة بين قطبين مغناطيس بيزقوا بعض. بالظبط. حاجة أقوى مننا، مش متشافة، بتفرقنا قسراً.
في عينيها خوف، زي اللي في عينيّ غالباً، ورجاء. رجاء إني أبطل الليلة دي كلها ونمشي من هنا. من الشارع الضلمة ده، المرعب بهدوءه. هدوؤه ماسك ف قلبي زي الكماشة، ويا دوبك سايب له مجال يدق، بالعافية. وضلمته حِمل إسود طابق على ضهري. ماسك الديريكسيون بايد، وايديها بإيد، وبابص لها. مش عارف شايفة ايه في عينيا، معنديش أي تحكم في تعبيراتي. مش لاقيهم. فيا رغبة وخوف، وحب وبؤس وغضب. حزن… مش عارف باينين عليّ ازاي.
السيارة قفص. معرضان أنا ومحمد في أي لحظة أن يأتي بعض مرتادي حديقة الحيوانات هذه ليتفرجوا ويمتعوا نظرهم من هذا القفص المثير، حيث يقطن ذكر وأنثى يافعان، فصيلة مصري الطبقة المتوسطة. سيأتون في أي لحظة ليقيمونا باشمئزاز، ثم يحكموا علينا بميزانهم المغشوش. قبلت من أجله، ومن أجلي. فأنا أيضاً أتوق لقبلة أولى. قبلة حب وشغف وامتنان، قبلة يستحقها حبنا الوليد. ولكني الآن لا أقدر. تشلني سيناريوهات العواقب. الخوف ينعق في نفسي كما الغراب… ذات البرود، ذات الحتمية. أحاول الاحتماء بشبكة أيدينا، فأحكم القبضة. ولكني كمن قفز من علٍ وتبحث يداه عبثاً عما يقيه من الارتطام بالأرض. أنظر إليه فأجد نظرته مرتجفة، تائهة، هشة. كل ما قد يكون يختلج بداخله دون ذلك مدفون تحت هذا الوهن الحائر. أرمق المرآة الجانبية والخلفية بهوس. هو أيضاً، لكن أقل مني. الضغط على البنت دائماً أكبر وأقسى. هي من توصم بالعار، وشرفها هي على المحك… لن أقدر.
ـ باقول لك ايه يا محمد، يلّا بينا من هنا. مش هينفع.
ـ مش هينفع ليه بس…
قلتها بعدم اقتناع فج.
ـ أنا مش قادرة، أرجوك يلا بينا.
قلتُ أرجوك من قلبي.
من غير ما أحس بنفسي، لقيتني باقول لها “طب استني بس”، وباقرب من وشها الناعم الذكي، موارب شفايفي، رايح لبوسة. انتفضت هي كأنها اتكهربت: “انت مجنون يا محمد! مش مرتاحة! مش هينفع والله باقول لك! يلّا بينا أرجوك!”. زَعَّقِتْ بهلع حقيقي. حسيت بالعجز وقلة الحيلة بيضعفوا جسمي. مسكت الديريكسيون بايدَيّ الاتنين، وتنحت قدامي: “طيب خلاص يا دينا. شوية بس، وهنمشي.” متنح في العربيات اللي راكنة طول امتداد الشارع، بكثرة مقرفة، وفي أشجار المعادي الكثيفة، الأزلية، اللي لسبب ما، مع combination الشوارع القديمة الضيقة، بتخلي كل شوارع المعادي شبه بعض. نفسي أنزل أجري زي المجنون في الشوارع دي، أخش يمين في شمال في يمين ميت مرة لحد ما أتوه، لحد ما السرعة وقطعة النفس يسطلوني، وأقع من طولي. بس يمكن حتى معرفش أتوه، والأقي نفسي في شارع زحمة أنا عارفه، كله ناس ودوشة ووقاحة، أنا عارفهم.
سئمت عدم الأمان والتلصص. سئمت التحايل على القهر الممنهج، الذي دائماً ما يجد حيلة لغرس مخالبه فيّ، عاجلاً أم آجلاً. أريد أن أرجع إلى البيت وأهرب في النوم. أغرق في نسيانه الرحيم، وإن كان الاستيقاظ لا يرحم. ألمح هيئة إنسان تقترب منا في المرآة الجانبية. ظننت سواد الهيئة في البداية يرجع للظلام المقيم، ولكن مع اقترابه فهمت أنه يرتدي الأسود من ساسه لراسه. وأنه في الأغلب شرطيّ. يا أرض انشقي وابلعيني.
شايفكم يا ولاد الهرمة. هو البلد واقعة من شوية… مبقاش فيه ضمير ولا أخلاق. الولاد هيجانين، والبنات سهلة، جاهزة على الشقط. قمة السفالة. لا وراكبين لي Corolla المعفنين. طبعاً، بابي ومامي مريشين، وجايبين لكم العربية والموبايل، ونايمين على ودانهم بقى وسايبينكم تصيعوا زي ما انتم عايزين. سرعت شوية لما اتأكدت، بس فضلت ماشي بثقة. مش شوية عيال بشخة زي دول اللي يهزوني، آه!
“محمد! فيه خره ظابط بيقرب علينا!”. حزَقِتْ برعب من بين سنانها. على بال ما اطلع من الركنة واَتحرك هيكون بيخبط على كس أم القزاز. ومش هاعرف بقى أراوغ وأعمل لو جِه ورايا بعربية. هاستنى وأحاول أرد عادي. دينا عمالة تهز راسها في حركات صغيرة حادة، وشها غضبان وهيعيط في نفس الوقت. بيخبط على الإزاز بتاعي بعيون منتصرة ومنحرفة، أمين الشرطة العرص. بافتحله.
ـ ايه يا بهوات! ينفع الكلام ده؟ مستفرد بـ… بالأمورة دي في الضلمة كده وفي العربية؟ وانتِ يا حلوة، مرخصة نفسك كده عادي؟ بطايقكم…
صوته مرح وغبي. قبل أن يقول “الأمورة”، مد رأسه ليتفقدني جيداً، بابتسامة بلهاء مقززة. أنا رخيصة يا كلب!
ـ ملوش لازمة الغلط حضرتك. شفتنا عملنا حاجة؟ وبعدين دي زميلتي في الجامعة… بنتكلم عادي… مفيهاش حاجة يعني.
ـ لو مكنتش انت والمازمازيل الحلوة غلطتوا من الأول، مكنش حد كلمكوا يا روح أمك. وبعدين كفاية انكم لوحدكم كده، بليل، في الضلمة، في العربية… عايز تفهمني ان ده عادي يعني؟ شايفني مختوم على قفايا؟! البطايق!
ابن الشرموطة بيرد عليّ ويقاوح. الغلط راكبه وقافشهم وهمّ هيعطوا خلاص، ويقول لي عادي ومتغلطش. لا حول ولا قوة إلا بالله… وساكن لي في المعادي، والمزة ساكنة في التجمع… كمان!
بص للبطايق بعينين فاضية. بص لنا مرة، وبعدين بص فيهم تاني وقام مرجعهم لنا.
أشعر أني أُفترس بالتصوير البطيء.
ما فياش حيل الصراحة لوجع الدماغ ده. لسه هاخدهم على القسم، وأعمل محضر… ودول فرافير، هيقعدوا يولولوا بقى ويقلبوها لي مناحة… في الطريق… وفي القسم… كفاية قرصة الودن دي، عشان يلموا نفسهم ويعرفوا انها مش سايبة، وفُل أوي على كده. أنا ناقص خَوتة…
ـ عشان شكلكم ولاد ناس بس، هاعديها لكم المرة دي يا شماليل. مع إني ممكن أعمل لكم محضر فعل فاضح، وأجيب أهاليكم، وأمرمطكم شوية عشان تتربوا، عادي. بس خلاص براءة المرة دي، انتم برضه قد ولادي.
بس أنا ولادي أشرف من الشرف، آه!
دينا بتحاول تبان متماسكة، بس دموعها عمالة تنزل على وشها وتبوظ الانطباع الحاد القوي اللي بتحاول تديه.
أريد أن أرجع إلي غرفتي. يا الله، أمتني حتى أصل إلى سريري.
ـ شكراً.
دورت العربية وطلعت من الركنة. الأمين اتجه شمال، وكان عدى الشارع خلاص. لما اتأكدت إني هاعرف أكت بسرعة، وطمنتني الضلمة اللي هتخليه ميعرفش ياخد نمر العربية، قمت مناديه بأدب:
ـ حضرة الأمين!
ـ أيوة.
ـ حضرتك عندك بنات ولّا ولاد؟
ـ عندي بنت وولد، ليه؟
ـ بنتك قحبة، وأمك لبوة.