استمعي إليّ جيّداً: كان لنا بيتٌ تسندهُ جدرانٌ كثيرة، ورجلٌ واحد.. رجلٌ واحدٌ فقط، عرفتُ الوطن الكبير من عينيه، كان بكلّ تفاصيله وطناً. ذات غدرٍ ذهبَ هو، وبَقيَتْ جُدراننا تبكي مع أمّي ألم فراقه، أنا يا أمّي ما عاد لعينيّ وطنٌ أعلمكِ عشقه، بيعت أرضي، واغتصبتْ ديارُ أجدادي، بيعت بدمِ أبنائها ولأبنائها اقتسمها الذّئابُ، ولم تصلنا الرّايات سوى أكفاناً خضراء..صفراء.. ياعليّ! وسوداء..يا اللّهُ يا مُحمّد!
ما زال صوتُ الرصاص ينخر بذاكرة ذاكرتي، وصرخاتُ المخاض لولادة القذيفة البغيضة يرنُّ في أذنيّ، وهديرُ الطّائرات التي تحوم فوق رؤوسنا لترمي ببراميل الموت ينفض بجسدي حتّى التعب، أشياء كتلك لا نملكُ حقّ نسيانها، ولا حتّى دفنها مع أيامها، فصوت رصاصة فرح في مكان إقامتي هذا كفيلٌ بتهييج كلّ المواجع والجروح التي سكنت.
رصاصةٌ غادرة ساقتها يدُ القدر، اخترقت ذاك الجسد الطّاهر وأتته مُباغتة فسرقت منه عطف الأبوة وحنان الزوج وأعطتنا سنينا من الألم، لتقضي بذلك على حلمنا بالفرح من جديد. لم يخطر لها وهي في طريقها كم من البؤس ستترك خلفها! كم من الأنّات والوجع سيثيرُ اختراقها! مضت غير آبهة وسكنت جوفه. -ألم يكن الله حاضراً؟ بلى، ولكنّها إرادتهُ، وهل لنا عنها مردّ! وهل لقلوبنا سوى الحمد! فَلله ما أخذ ولله ما أعطى وكلّ شيء عنده بأجلٍ مسمّى.
كنتُ طفلة لم تعي الحياة بعد، بوعيّ دون حد لكنّ قدري ولد معي، قدري أن أعيش فجيعة فراقه. وحبيبتهُ التي تركها خلفهُ حائرة تشكي ألم فقده لروحها المكلومة، سافر وأخذ خبايا فؤادها معه.. كان زوجاً رائعاً. أودع عندها طفلتين منحهنَّ من الأبوة ما يحولُ دون إحساسهنَّ باليُتم، ذهبَ، ومضت الأيّام حتّى خلته صار سراباً لأجدهُ في ذاكرة أصغرهنَّ حاضراً بكلّ ما فيه، لم يكفَّ طيفهُ عن مداعبةِ خيالاتها لحظة. ووحيدهُ الذي صار رجلاً قبل الأوان نزف دموع رحيله تحت غطاء الرجولة في الخفاء.
كأنَّ لتعب تشرين ارتباط بعينيه اللتين أدماني فراقهما، كلّما أحسستُ بتعبٍ أشتاقهُ، أحتاجهُ، حتّى يفنى جهدي أمام معجزاته، حتّى أصغر أمامه وأصبحَ لا شيء أبداً. تسكنني تفاصيلهُ ولا أستطيعُ أن أتجاهل أنّه كان يوماً هُنا، أقفُ على بابه أتأملُ قسماتِ وجهه، أتمنّى لهُ نوماً هانئاً وأنصرف. هكذا هم الآباء، الآباء يصنعون في ذاكرة كلّ طفل مستقبل من المستحيل نسيانُ ماضيه، وهيهات أن تخطو خطوة فيه دون أن تكون وجوههم حاضرة في كلّ ثانية من عمرك المسروق.
كان أباً عظيماً.. لطفلتي التي لا أدري بأيّ أرض ستولد، ستكبر، ستنطق أوّل كلمة، وتخطو أوّل خطوة، كتبتُ هذا. صغيرتي أنا الآن يسكنني أمانٌ، لكنّه مزيفٌ، أخاف أن أكبر ويعشش بين أضلعي منه فلا أستطيعُ أن أهبكِ يوماً إلّا الزيف.. صلِّ يا طفلتي بأن ينتهي كلّ شيءٍ قبل مجيئكِ “فإنّ الصغار صلاتُهم لا تُردُّ”. صلِّ، لأنني لن أجدَ ما سأقولهُ لكِ يوماً.