الساعة الخامسة وخمس وأربعون دقيقة. أكتشف حانة جديدة في ضاحية حلق الوادي حدّثني صديق لي في العمل عن أجوائها. قررت زيارتها ولحظّي السعيد كان عيد إفتتاحها الأول. “هابي هاور” كامل السهرة. سعر قارورة البيرة ثلاث دينارات. كان يوم عمل مقرف ومنهك ولا يمكن لخبر في العالم أن يسعدني أكثر من هذا.
الأجواء صاخبة، الكثير من الدخان، موسيقى إسبانية تتردد داخل المكان، فتيات يرتدين قبعات “الكوي بوي” وأخريات يدخن السيجار. براميل خشبية مكان الطاولات، براميل صغيرة تزين المكان، براميل الخمر التي تنقلها السفن القديمة فقدت رونقها وتحولت إلى متكآت للمتكرشين.
تقدّمت قليلاً، لم أكن من زبائن الحانة، لست من هواة الأماكن الصاخبة، لكنني اليوم قررت تغيير عادتي واكتشاف مكان جديد. طبقاً للتقاليد ومع بداية كل شهر أسحب ربع راتبي وأزور مكاناً خراج المدار اليومي لتحركاتي.
وقفت في الوسط، جثتي ثقيلة، مرتبك، لكل فضاء أعرافه، أي مكان على الزبون الجديد أن يحتل، أي مكان مخصص للغرباء في هذا العالم الصغير الصاخب. وجدت نفسي قبالة طاولة كتب عليها “محجوز” باللغة الفرنسية. رفعت رأسي، حاولت أن أتقدّم دون أن أثير الانتباه. لا أدري سبب هذا الارتباك. المهم، وجدت نفسي أتجه نحو الكنتوار الرئيسي وأزيح
كرسياً ذي سيقان طويلة وأجلس كأني بطل فيلم هوليودي .
خرافة الأفلام الهوليودية، بطل بجاكته الجلدية، سجائر مالبورو حمراء، كأس مزدوجة من الويسكي الفاخر، يهابه الجميع، نظراته قاسية، مخيفة، يتجاهل ساقي الحانة، يشتمه أحياناً، لكنه دائماً ما يكون لبقاً مع الزائرة الجديدة، صاحبة الثوب الأحمر والمؤخرة المكوّرة، تفتن الرجل الحديدي بنظراتها وطلاء أظافرها الأحمر .
“تفضل، أي طلبات ؟” هكذا سألتني ساقية الحانة، تبدو صغيرة، شعرها قصير، وشم يزين ساعدها الأيمن. تفطنت لنظراتي. ضحكت: “لا معنى له، حماقات المراهقة“. أجبتها بابتسامة ودودة، كأني أتفهم الأمر: “بيرة، باكس لو سمحت”.
الساعة الثامنة. شربت تسع زجاجات. مفعولها يتسرب متثاقلاً داخل هذه الجمجمة اللعينة. راق لي المكان. استمتعت بالموسيقى، أغاني فولك وروك كلاسكي وكاونتري. بدأ الزبائن المخلصون بالتوافد. المكان يضج بالبشر. لم أرغب بمراقبتهم، تصرفاتهم الحمقاء تعكر مزاجي. أردت فقط قليلاً من الونس الرّاقي. أدرت الكرسي نحو مجموعة من الفتيات يجلسن في الجانب الآخر من القاعة.
لفتت انتباهي إحداهن، جميلة من جميلات هذا الكون، جزء من مؤخرة العالم، حسب تقديري البسيط يمكنها منافسة جنفير لوبيز. بدون تفكير، طلبت من النادلة أن تراقب مقعدي واتجهت نحو بطلتي حالماً بليلة حميمة أتفاخر بها غداً أمام أصدقائي في العمل.
“مرحبا” قلتها وأنا أشعل سيجارتي بعد أن وضعت قارورة البيرة على منضدة الفتيات بكل وقاحة متمادياً في دور البطل الهوليودي. هذه اللعنة التي ترافقني دائماً في حواراتي مع النساء. لم أتلقى أي رد، مجرد نظرات تحاول تفكيك هذا الرجل غريب الأطوار. سحبت نفساً وتجرعت قليلاً من البيرة وأكملت الحوار “المكان جميل، أعجبني، أحس بنوع من الألفة رغم أنها زيارتي الأولى”. لم تتمالك إحداهن نفسها، ضحكت وواصلت تجاهل وجودي. كان من الواضح أنه غير مرحب بي، لكن كعادتي وبعد القارورة التاسعة، لا أشعر بالخجل، كما أن ضحكتها الخفيفة شجعتني على المواصلة. طلبت من فتاتي بكل لباقة إن كانت راغبة في إستنشاق بعض الهواء النقي فرفضت. لم أشعر بالحنق، في هذه المواقف تسعفني الروح الرياضية. تقبلت رفضها بابتسامة وعدت إلى كرسي ذي السيقان الطويلة.
جلست على الكنتوار بعد غزوتي الفاشلة. تراخيت على الكرسي مراقباً القوارير الفخمة المعلقة، سمعت صوت ضحكات رقيقة تنساب تحت إبطي. تجاهلتها، شعرت بإرهاق مفاجئ. في تلك اللحظة لم أكن راغباً في التعامل مع الملامح البشرية.
“هون عليك. لما هذه السحنة. لكن حتى أكون صريحة، أسلوبك في الحديث مع الفتيات غبي. مثلك مثل الجميع. لن – تستطيع أن تقنعها بهذه الطريقة. أي شخص يمكن أن يكون راع بقر أخرق، لكن هناك دائماً دون خوان واحد.” ثم واصلت قهقهتها الساخرة.
شعرت بالحنق، تأكدت أن كلامها كان موجها لي. تمالكت نفسي. استدرت نحوها بهدوء مصطنعاً اللامبالاة. “عذراً؟”.
حاولت أن أرد هجومها. لكني حين نظرت إلى عينيها عرفت أن معركتي خاسرة مسبقاً، فأنقذت نفسي بابتسامة رقيقة.
ضحكت، حركت شعرها، مغرية، دارت نصف دورة، كل تفاصيل جسدها صارت في متناول نظري. دون أن أطيل الوصف، كانت ناضجة، امرأة في الأسبوع الأخير من الربيع. زهرة المشمش تفتحت بتلاتها وداعب النسيم رحيقها. كنت سأنطق بحماقة جديدة لولا أنها قطعت الطريق وأنقذتني للمرة الثانية.
– “يبدو أنك رجل لبق؟ كنت أراقبك قبل أن ترتكب حماقتك. لا تأخذ كلامي كإطراء، لقد جلبت انتباهي لأنك جديد. رواد هذه الحانة معرفون في جلهم، منتظمون، خصوصاً رواد الكونتوار”. وغمزت بعينيها غمزة خبيثة.
– “لا أفهم ما علاقة لباقتي بالكونتوار ولكن معك حق، لست من رواد الحانة. هذه زيارتي الأولى. عندما وصلت كانت الأماكن شاغرة ولم يخبرني أحد أن كراسي الكنتوار محجوزة.”
مررت نظرة خاطفة على ساقيها، طلاء أظافرها المغري، رفعت رأسي لأجدها مندهشة من أسلوبي الفج في التكحيل.
ابتسمت. اصطنعت الصدمة. لكن رنين الهاتف الجوال قطع حوارنا اللطيف. هرعت إلى ركن منعزل في البار حتى ترد على المكالمة. عندها طلبت قارورة البيرة العاشرة وأخذت أخربش بعض الكلمت. هذه من بين عاداتي. أحاول في كل ليلة كتابة بعض الأسطر بدل السهر على صفحات الفيسبوك وارتكاب حماقات جديدة.
“كانت تدخن سجائر من نوع سليمز، أناملها رقيقة، أنوثتها طاغية، لون أحمر الشفاه يصبغ عقب السيجارة، عطرها
فخم، رائحته أنعشتني، نظرتها أسرّتني، امرأة الربيع المكتمل داعب النسيم نهديها فبكيت…”
بدأت كتابة هذه الكلمات بينما كانت تجيب على الهاتف، سرحت، استرسلت، لم أتفطن لليد التي امتدت تنتشل من بين أصابعي آلتي الصغيرة. كانت هي. حاولت منعها لكنها كانت الأسرع. ابتعدت قليلاً، قرأتها وبدل أن تقهق بسخرية ابتسمت ابتسامة طفولية.
دائماً ما كنت أستمتع بمراقبة ملامح الفتيات وأنا أقدم لهن نصاً ليقرأنه، أراقب انفعالاتهن، ملامح الدهشة، الحزن، التقزز في بعض الأحيان، أراقب كل شيء بينما أدخن سجارتي معتقداً أني هنري ميلر ينتظر ردة فعل أناييس نين . كنت أقدم نصوصي لصديقاتي فيسخرن مني. هذه المرة فاجأني القدر، المكان غير معتاد، فتاة مجهولة كادت تذرف دمعة على
إيقاع حروفي المبعثرة.
احمرّ خدّاها وأشاحت وجهها. ارتبكت. كيف يتصرف الأبطال الهوليوديون في مثل هذه المواقف؟ سحبت منديلاً من فوق
الكونتوار وقدمته لها. وضعت الهاتف، مسحت خطاً أسود سال فوق وجنتيها وابتسمت. طلبت من النادلة أن تحضر كأس ماء للسيدة، تفاجأت النادلة: “مدام أماني؟ هل أنت بخير؟ ” أجابتها: “بخير، عيشك.” ترشفت الكأس وعادت لتقرأ النص مرّة ثانية. فتاتي الحزينة لم تعد مجهولة الهوية الآن.
– أماني، لا بأس؟
– صرت تعرف اسمي الآن.
– اسمي أمجد.
– سعيدة بمعرفتك، أعذرني، تصرفاتي غريبة، أحرجتك، جعلتك ترتبك، لم أتعوّد على رجال يكتبون نصوصاً جميلة عن امرأة يرونها للمرة الأولى، كنت أظن أن هذا لا يحدث سوى في الافلام، هنا أكثرهم لباقة يهدي حبيبة ليلته قارورة بيرة.
– أتفهم الأمر، لكن صدّقيني الهدف واحد في كل الأحوال، كل رجل يجلس على الكونتوار ويقدّم هبته بسخاء ينتظر مقابلاً.
– أنت لم تقدّمها، أنا انتزعتها منك.
– ما أدراك؟ ربما كنت سأنتهز الفرصة وأقرأ النص في الوقت المناسب.
– لا تبدو بهذا الخبث.
– لكل شيطانه الأخرس.
– شيطانك ليس أخرساً، شيطانك يكتب.
– حسناً ما رأيك أن نحتسي الجعة على شرف هذا الشيطان؟
– موافقة، لكن من يدفع؟
– طبعاً، كما يقول العرف، أنا أدفع؟
– وقح، سأدفع أنا.
– لن أرفض، لكن طبقاً للقاعدة سأكون مجبراً على تقديم المقابل.
– طبعاً، ستدفع الثمن. هل ترى ذلك الرجل الذي دخل منذ قليل، ذلك الأصلع، وجه البومة الذي يجلس في مدخل الصالة.
– نعم، أراه.
– هو صاحب المكالمة وهو صاحب الحانة، حاولت التملص منه، لا فائدة، لا أريد مجالسته، سأمسك بيديك وما عليك سوى أن تتظاهر بأنك رفيق ليلتي.
أومأت برأسي موافقاً دون أن أتكلم. تراكمت الأفكار داخل جمجمتي. إنها فرصتي اللعينة. تشابكت أيادينا. تحاشيت النظر مباشرة في عينيها. انتصبت. تنحنحت. اكتشفت بنت الكلب ذلك فمالت على كتفي، قبلتني من خدّي. شراييني تفسخت من فرط الشهوة. لم أعد قادراً على المقاومة. أحتاج إلى قليل من الهواء. أطفأت سيجارتي وخاطبتها: “أماني، ما رأيك في مغادرة هذا المكان، لنتسكع في مكان آخر، لا أشعر بالألفة هنا. بيتي ليس بعيداً، إذا أردت يمكننا إكمال السهرة هناك، لدي قارورة نبيذ فرنسية معتقة، سنتقاسمها، سنتحدث عن أشياء جميلة.”
ابتعدت عني بعنف وفي عينيها نظرة عتاب: “أمجد، يبدو أنك فهمتني خطأ، أنا لست عاهرة…”
– لم أقل هذا…
– قصدت هذا
– أبداً، لست أحمق، أشتهيك هذا أكيد، لكن دعوتي كانت…
– بريئة؟
– ليس لهذه الدرجة، قالها وهو يقهقه، لن أتحول إلى ملاك فجأة، فقط لا أشعر بالراحة في مثل هذه الأماكن.
– إذاً أين تجد راحتك.
– في بار الطاوس.
– إذاً أسدي لي هذه الخدمة، ابق معي حتى ييأس وجه البومة وبعد ذلك يمكنك المغادرة إن شئت، أنا يعجبني المكان.
– حسناً.
– عزيزي أمجد، لا تكن كئيباً، سأسليك قليلاً، سأحدثك عن حكاية وجه البومة.
– لا أريد أن أسمع قصّته.
– لا تغضب.
– لست غاضباً، فقط حدّثيني عن شيء آخر.
– مثلاً؟
– كيف يمكن لرجل أن يقع في حب امرأة منذ اللقاء الأول.
– أنت تراوغ، لست سهلاً يا أمجد، سأحدثك عن شيء آخر، سأخدّثك عن امرأة وقعت في حب رجل منذ النظرة الأولى.
ثم اقتربت منه وقبلت شفتيه بشغف.