علامَ تقدر الكتابة أمام الموت، حين يخرّب مدناً بأكملها، بلاداً، حين يجعل عاليها سافلها، حين لا يعود هناك مكان إلا للأسلحة والقنابل والسكاكين والبكاء؟ ما قيمة الكلمات في هذا الوحل؟ تسلخ هذه الأسئلة الأليمة أدمغتنا. في “أسامينا”، نؤمن بأن في مثل تلك الأوقات، حين يتساقط شعبٌ عربي، مرةً أخرى، لأنه جرؤ على المطالبة بالحرية، مرةّ أخرى، كلازِمة منحرفة تفرم كل الجلود، تحطّم كل المصائر، حين لا تستثني عبثية الموت حتى المصلين في ملجئهم، نؤمن بضرورة إعطاء الكلمات حقها، مكانها. بضرورة الأمل في الكلمات. بضرورة إشفاء الكلمات. بضرورة بصق الكلمات.
في الصباح، أحتسي الشاي. أبدأ يومي بكوب من الشاي يضخ الكافيين في مخي المخدَّر. تسري سخونته في صدري، تواسيه في يقظته المرغومة… قبلها أجبر عينيّ على مقاومة الانطفاء بفرّ ما يحمله الفيسبوك من لغو وانفجارات ومزاح وانفطارات، إلى أن يتلاشى أثر الجاذبية التي تشدها لأسفل وتشدني للغياب. ثقيلة هي، اليقظة. لا شهية لي للإفطار، ولا طاقة. أملأ الغلاية بماء رتيب من الصنبور. صورهم مدمِّرة، تطبع حقيقتها العبثية في ذاكرتي. لن أهرب منها أبداً، لن يهرب منها أحد. حركة عادية التقطتها عدسة قاسية، وشلّتها في إطار سرمدي، في صورة لن تبرحني. ابتسامة، وقفة، إضاءة، خلفية مهزوزة، تواطؤ لعوب مع المصوّر، ثياب كل يوم، خُلِّدَت في غفلة من الزمان، بلا معنى. بلا أدنى معنى. الفقد… يعلو زفير الغلاية في انفعالٍ غبي. قبضوا على الجاني في أقل من أربعٍ وعشرين ساعة ولكن لم يستطيعوا تأمين الكنيسة، شكراً. لمَ الأمر بتلك السهولة؟ كيف يغلّفنا الفشل هكذا، كيف نعيش فيه كجيفة غزالة في جوف أناكوندا لم تشرع بعدُ في الهضم؟ أسال صدقاً، كيف؟ متى تهضمنا…؟ أعلن الأشرار عن مسؤوليتهم عن الحادث وأعلن الأخيار عن حرمانية الاستغفار لهم، وحمدوا الله سراً وعلانية على نعمة الإسلام، ولمتُه أنا لأنه يرغمني على الاستمرار. يتعالى حنق الماء الساخن، فأجهز ورقات الشاي. أرصها بعناية في تلك الكرة المعدنية التي اشتريتها كي أستغني عن أكياس الشاي، وأدخل مرحلة ورقات الشاي، ذات الطعم الأغنى، أشمئز من نفسي ومن رفاهيتي الحقيرة. أشمئز لدرجة تكاد تصيبني بالغثيان، ينكمش أنفي وتتكور شفتاي في كره عضويّ للذات. في بلد آخر، يلفظ الإنسان أنفاسه الأخيرة. يبتلع الركام كل شيء، ويخرج الدم من أجساد البشر ليعلن بداية اليأس الأحمر، ونهاية الحياة. يحبون تسليط الضوء على ضحايا النساء والأطفال، ولكن ماذا عن دموع الرجال؟ ماذا عن دموع النساء والأطفال، قبل أن يموتوا؟ ماذا عن الانتحار؟ كيف الوداع؟ ما معنى كلمة “استهجان”؟ يبسط العجز ذراعيه على كياني، وعلى سكان الأرض أجمعين. أشعر بهما… وبينما نتساءل، رغماً عنا، عن توقيت الحمام الساخن والهدية الأنسب وزملاء العمل والطريق الأسرع ومكوّنات العشاء، يسود الخزي. تبصق علينا السماء، وتنتقم منا حاصدةً أرواحهم هم. خلاص، الماء يغلي.