© Youssef ElBeshlawy

للتمرد وجوه أخرى

من يتمرد؟ ولماذا يتمرد؟ وعلى من يتمرد؟ أسئلة قد تبدو أنها بلا مغزى، ولكن في الحقيقة هي أسئلة إجابتها صعبة أو غير مطلقة. وهذا لأن ماهية التمرد من الأساس غير واضحة؛ فالتمرد ثورة، انتفاضة، عصيان، اعتراض أو حتى إبداع. في لحظات مختلفة في تاريخ البشر، قامت مجموعات مختلفة بالتمرد من خلال ثورة على نظام سياسي مستبد، على كيان ديني أصولي قمعي، على قوانين ظالمة لفئة معينة من البشر. ولكن السؤال هنا هو هل ما زال للتمرد منطق في العالم الحديث الذي نعيش فيه؟ فالخطاب السائد عن التمرد يتلخص في أن مجموعة من الناس، أو “الشعب”، يضيق بهم الخناق أمام سلطة واضحة المعالم سواء كانت نظامًا سياسيًا، دولة، كنيسة أو حتى معلمًا مستبدًا في المدرسة. في هذه الحالة يكون المتمرَد عليه جهة معلومة، فهذه الجهة هي مصدر القمع والتخلص منها يعني بالضرورة التخلص من القمع الذي هو سبب التمرد من الأساس.

فالثورة الفرنسية مثال للتمرد ضد الظلم الملكي الذي ترك الفرنسيين في دين وغلاء أسعار نتيجة الحروب التي شارك فيها وتفضيله طبقة أرستقراطية محدودة على العوام. ومع صعود الثورة حدثت المعضلة المعتادة، وهي مدى أخلاقية هذا التمرد وتدخل الدين في هذه المعضلة لأن الكنيسة كانت طرفًا من الكيان السلطوي. وهنا يصبح التمرد أكثر تعقيدًا لأن الثورة تكون على السلطة والإله معًا بحكم أن الملك هو الحاكم بأمر الله في الأرض. هذا التزاوج بين الدين والسلطة لم يقيد فقط الثورات السياسية والاجتماعية، بل كان ايضًا قيدًا للإبداع العلمي والأدبي والفني؛ فالمقاومة التي تعرض لها جاليليو من الكنيسة الحاكمة في وقته والتي تعرض لها ابن رشد من رجال دين وحكام زمانه على الرغم من منطقية وعلمانية اكتشافاتهم وانفصالها عن العلم الديني أكبر دليل على خطورة هذا التزاوج. هذا لا يعني أن الدين بطبعه ضد التمرد، فأي دين جديد لا يؤسس وجوده بدون ثورية وتمرد على المؤسسات الدينية والمجتمعية الموجودة مسبقًا ولكن ديناميكية الدين بطبعها تحمل الثورية في البداية لتؤسس بعدها لجمود طارد للتمرد والتجديد بمختلف أنواعه سواء أكان سياسيًا أو اجتماعيًا أو أدبيًا وفنيًا.

نفهم من هذه الأمثلة أن التمرد يمكن تعريفه بأنه ثورة ضد الواقع، عادة واقع مستبد، أو انتفاضة لتغيير الوضع الحالي لأن خسائر استمراره أكثر من منافعه. وعادة تغيير هذا الواقع يرتبط بكيان ما يجب تحطيمه. لكن ماذا لو لم يكن هذا الكيان أشخاصًا أو حكومة أو مؤسسة دينية أو رئيس عمل أو معلمًا مستبدًا؟ بصورة أخرى ماذا لو لم يكن ما يقمعنا كيانًا واضحًا يمكننا التمرد عليه تقليديًا؟ في هذه الحالة يصبح التمرد أكثر تعقيدًا وخطورة وأكثر عرضة للفشل. فعدم وجود كيان واضح نثور عليه يجعل فكرة التمرد عبثية وغير منطقية. ما يحدث الآن في المجتمعات المعاصرة، والتي من المفترض أنها ديمقراطية، هو أن آلية القمع اختلفت وتطورت وأصبحت أكثر ضبابية. (لاحظ هنا أني لا أتحدث عن مجتمعاتنا العربية وغيرها من المجتمعات التي حافظت على مركزية السلطات لأن مركزية القمع ما زالت موجودة ولو بنسبة أقل من الماضي ولكنها ما زالت صامدة.)

مع امتزاج الاهتمامات وتنوع المصالح صار التمرد أكثر صعوبة في التحديد وازداد تنوعًا. مع صعود الثقافة الاستهلاكية في المجتمعات الصناعية الحديثة وصعود التكنولوجيا، صار العالم أكثر تواصلًا ولكنه صار أيضًا أكثر تنوعًا، أو بالأحرى صار التنوع أكثر وضوحًا وتشابكًا. وصار من الصعب تحديد مصدر الأفكار وتتبع منبعها، وخُلقت كما يقول الفيلسوف الألماني “ماركوزي” ما أسماها احتياجات غير ضرورية عديدة. تنوع تلك الاحتياجات أدى إلى تنوع احتياجات الأفراد عمومًا وازديادها وبالتالي إلى انغماس أكبر في الحياة المادية والاستهلاكية وإلى مزيد من الانشغال بالقيود غير المرئية التي خلقتها هذه الاحتياجات غير الضرورية. فنمط الحياة الآن قائم على استهلاكية لا محدودة. لا محدودة لسببين: الأول هو أن تنوع المصالح وتشعب الاهتمامات المرتبطَين بالعولمة والتكنولوجيا خلقا مساحة استهلاكية أوسع، أما السبب الثاني فهو قائم في وضع الأفراد في حالة استهلاكية دائمة ومتواترة، فستستهلك أكثر مادامت لديك الإمكانات المادية، وإن لم تتوافر تلك الإمكانات فسيتحول هدفك الرئيسي في الحياة إلى أن تزيد منها كي تستهلك أكثر. في هذا النمط لا يدرك الفرد أنه محاصر في حلقة لا تلد إلا القمع لأن رغبة الاستهلاك رغبة قوية وبالتالي فالقمع هنا في أغلبه قمع غير صريح.
تلك القيود ليست مركزية فافتراض أن القضاء على السلطة الحاكمة سيؤدي إلى القضاء على تلك القيود هو أمر عبثي، لأن تلك القيود هي نفسية في الأساس وغير مركزية. وبهذا يتحول التمرد إلى مفهوم فردي مناقض للحكمة السائدة بضرورة جماعية طبيعته.

حقيقة أن تلك القيود غير مرئية قد تبدو غير مفهومة أو غير واضحة، ولذلك دعني أتحدث عن تحليل الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” لديناميكية القمع والمقاومة. فوكو يرى أن السلطة ليست بالضرورة سلطة سياسية، ففي علاقات البشر ديناميكيات السلطة من فارض وخاضع لها. هذه الديناميكية لا تحدث بالضرورة في وعي الطرفين، ولكنها قد تحدث نتاج نظام قيمي تراكمي يفرض وجوده على الجميع، يصنف ويقسم الأفراد في أدوار معينة. ومع تكرار تلك التصنيفات في مختلف النطاقات، تتحول تلك التصنيفات إلى طبائع فردية داخلية؛ لا لأنها فطرية، بل لأن تكرارها يجعلها تبدو طبيعية، ولكن الوصف الواقعي الأدق أنها معتادة وليست طبيعية. ولكن من أين بدأ هذا التصنيف؟ من الممكن أن نتتبع مثلًا بعض الأفكار مثل تحجيم دور المرأة في المجتمعات العربية وأن نقول أن أصلها فرضيات ذكورية مرتبطة بتحولات اجتماعية حضارية ذكورية معقدة في مؤسسات العائلة والدين لا يسمح المقال بشرحها هنا، ولكن تكرار تلك الفرضيات أدى إلى انفصالها عن أصلها حتى صارت الفرضيات متكررة بشكل غير مركزي لأن انتشارها لم يعد ذا مصدر سلطوي متجسد، بل صار جسدًا غير حسي من الفرضيات المتوارثة والتي تحولت مع الوقت إلى مسلمات في ديناميكية يصبح كل فرد فيها مدافعًا عن تلك المسلمات بصورة غير مركزية دون وعي بأصول تلك الفرضيات وسياقها.

ذلك الاعتياد للتصنيفات المخلوقة يؤكد تحول التمرد من قيمة جماعية إلى قيمة فردية. فببساطة تطبيع تلك التصنيفات يخلق رقيبًا غير موجود من الأساس، ولكنه أكثر قوة وتأثيرًا من الرقيب المباشر لأنه يجعل من التمرد أمراً غير وارد بل عبثي لعدم وجود جهة موحدة للثورة ضدها. هذا بالإضافة إلى أن العصر الذي نعيش فيه خلق اهتمامات ومصالح متنوعة، فمع ذلك التنوع تقل القيمة المكتسبة من التمرد أو الثورة لأن المصالح لم تعد مشتركة ولأن الجهة القامعة لم تعد واحدة فقط أو واضحة المعالم.

وبالتالي يصير قمع الأفراد لأنفسهم قادمًا من تغلغل التصنيفات في اللاوعي. فيتحول الرقيب المانع للتمرد على المعتاد من مجرد رقيب خارجي إلى رقيب ذاتي، قاتل للرغبة في التحرر والرغبة في الحياة وفي عدم الالتزام بما لا يجب الالتزام به، فيعيش الفرد كالمسخ متناسيًا إمكانياته الكامنة، يعيش معتقدًا أنه بالتزامه بتلك التصنيفات قد اكتسبت حياته معنى وقيمة، ولكن الواقع هو أن التمرد على تلك التصنيفات عند الحاجة هو ما يكسب الحياة معنى وقيمة.

“أنا أتمرد، إذن أنا موجود” ــ ألبير كامو.