© Alaa Badr

حياتها ذكريات متجددة

أرض شوارع السيدة عائشة بمطر وظلام. إنه ديسمبر الطفل الذي لا ينضج أبداً، طفلٌ جِلفٌ يحرق طاقته ببث برودته على الكل. كأن شهور السنة تعاقبنا بديسمبر، تاركةً لنا في نهايتها قاتلاً أجيراً يجول يبدد كل ما هو جميل، محولاً كل الألوان إلى لون الرمادي. إنه شهر ديسمبر اللعين وتفصلنا عن صلاة الفجر دقيقتان. دقيقتان ويُؤذّن الشيخ محمد مؤذن جامع السيدة عائشة القابع أمام موقف الميكروباصات، معلناً عن بدء يوم جديد، عن أمل يتجدد، عن حب يضمحل في صباح، أو عن عشق يولد. فكثيرة هي التغيرات التي تحدث بين ليل وفجر أو بين فجر وفجر. فالذين يقولون إنهم لا يتغيرون سيمضي عليهم ليل وفجر أو ربما عدة، ويتخلون عن أمور أحبوها، عن أشخاص أدمنوهم، عن أحلام قدسوها. سيجدون بعد ذلك أموراً واشخاصاً وأحلاماً مؤقتين لسد روتين الحياة، ولكن المؤقت يصبح دائماً والدائم سيزول ولو بعد حين. وكان هذا هو مبدأ عمر. عمر سائق ميكروباص مجهول بين المئات منهم. كانت حياته لا تختلف عن كثيرين. حياة في ألوانها، في ملذاتها وفي دروبها شاحبة. حياة قد قتلها ودفنها الألم، حياة أخذت تتجرح وتنزف من كلمات وعيون الكل. فكونه سائقاً يجعله أقل شأنا من عامل المصنع لأن الناس قد حكموا بهذا. عمر حاصل على بكالوريوس صيدلة من جامعة القاهرة، مؤهل دراسي يجعله فخورا طيلة حياته، إلا أنه لم يجد لذة في بيع الأدوية واستخدام التركيبات أصبح نادراً في أيامنا، فحتى تركيبة التسلخات التي كانت تباع بكميات هائلة أصبح سهلاً تحضيرها في البيت بخلط زيت خروع مع زيت بابونج ثم يضاف زيت الزيتون واللانولين. ويدهن مكان التسلخات مرتين في اليوم ومرة في الليل. كان يعرف عن حب وشغف المادة الفعالة في كل دواء حتى وإن كان مجهول الهوية. يعرف أن الإنترفيرون يحارب الأورام وأن الهيرسيبتين يجمل صدر المرأة المصابة بسرطان الثدي. كان يعرف منذ أول يوم دراسة أن قدره سيؤول به لهذا، دكتور صيدلي يبيع دواء للأنفلونزا أو مضاد للتقلصات. ولكنه رفض هذا الطريق مفضلاً العمل مع والده.

استيقظ عمر على صوت الآذان، فلبّى الطلب. رجع إلى منزله فوجدها نائمةً كما تركها. أحدث بعض الضجة لكي يوقظها، فاستيقظت.

ما أن اقتحم نور الغرفة جفونها حتى انتفضت ثائرةً وقد فاض بها الكيل، قالت له وهي تتلعثم:

– أتحبني؟!

فأجاب دون ان ينظر لها:

– لا

– إذا لماذا تزوجتني ؟!!

فأجاب بلا مبالاة:

– عادات وتقاليد

مسكت بذراعه بشدة وتدلت بين أحضانه.

– أي عادات تجعلني أفني عمري بين أحضان من يكرهني، من يراني اكسسوار، من لا يعتبرني ملكة قلبه العتيد.

– كفاك شكوى، كلامِك مشبع بالتفاهة التي تكاد ترغمني على الاستفراغ أو البصق الشديد. نحن العرب لنا ميزة، نحن لا نتزوج من نحب ولا نحب من نتزوج، هذا من عبقرية العرب حتى يجوز لنا بعد الزواج أن نعربد دون مُسَاءلة من الأصدقاء أو الأقارب لأن الإجابة ستكون ” امرأتي لم تعد تغويني”، حينئذ سيكون اللوم عليك. نعم تباً للرجال العرب.

تذكرت حينها عندما كانت تغفو بين أحضان أمها، تغفو وتنام دون خوف من الغد، دون خوف ألا يتقابل شهيقها مع زفيرها. تذكرت كيف كانت واشتاقت لشخصيتها القديمة، العتيقة، كيف كانت مستريحة الأهواء، الأفكار والشهوات.

ما باليد حيلة، بعد أن ألقى عمر كلماته، مُحدثاً فجوة في روحها، فجوة لن تلتئم، أغلقت عينيها.

ألقت على موجات دلتا وثيتا القابعة داخل جمجمتها، عاتق أن يشجعوها على النوم. ضغطت على جفونها لتتأكد أنها انفصلت عن عالمنا ولكنها تاهت بين أفكارها التي لا تريد تهدئة وتيرتها. فتحت المذياع راغبة في التشتت.

“أعزائي المستمعين، مرحباً بكم، إنه اليوم المنشود، حديثنا الليلة عن……”. إنها الآن نائمة فقد انخفضت موجات دلتا. ولكن ارتفعت موجات ثيتا محدثة في فص جمجمتها الأيسر زلزلة. تحركت عيناها بسرعة فائقة داخل جفونها وبدأت تحلم. أخذها الحلم بعيداً وفصل روحها عن جسدها. التحمت الموجات والخلايا سريعاً فرسمت خلفية الحلم قبل الصورة، لم تكن موسيقى هادئة، كان صوتاً جهورياً عذباً يلقي قصيدة شعر:

“بداخلي عبارات وكلمات أكتب بها عنك آيات،

ولكن مهما طالت كلماتي تبقي كلمات إنسان.

يسألونني لماذا تكتب لها ولا لأحد غيرها،

فأجبت حبيبتي سر السعد والهنا فأنا من أجلها،

أكتب في الشعر بحوراً وبحوراً ولا أكون قد وصفت جمالها. “

استيقظت وقد أخذ الصداع من رأسها مقراً. بعينٍ شاردة بحثت عن معنى لحياتها بين زوايا غرفتها. انجذبت عينها نحو كتاب تغطيه الأتربة، فتحته ومررت أنفها تستنشق رائحة أوراقه ذات الأصفر الداكن. دون تركيز، أخذت تمرر أناملها تتحسس صفحة وبدأت تقرؤها.

” الذكريات لا تموت.

الذكريات لا تموت، جميلةً كانت أم قبيحة. كلما حاولت أن تتناسى ذكرى بعينها، تأتيكَ بكامل قوتها، بارزةً كل أسلحتها، بدءاً من السيطرة الكاملة على مداخل ومخارج عقلك حتى الإصابة بالشلل الفكري، نهايةً بسماع طنين كالوسواس ينخر في مؤخرة الرأس، كأن الذكرى تحفر للاختباء.

معركة الذكريات تبدأ على سرير نومك، تغلق عينيك وتتقلب في مساحته ثم تضحك أو تبكي.

تبدأ في عراك، حتى تستحق ساعات نومك، تتعارك حتى لا يسيطر عليك ماضيك. الذكرى تأتي من نتاج افعالك، أغصان الأشجار تتشكل كالجذور، إن كانت الجذور جيدة فالأغصان جميلة وأوراقها خضراء وإن كانت يابسة فالأغصان ضعيفة وأوراقها صفراء. كذلك الذكرى إن كانت نابعة من فعل أليم صنعته فلا تطلب رخاء النفس بل استعد لاضطراب الروح. أنت الذي تكتب بخطك كيف تريد الآخرين أن يتذكروك، “ذكر الصديق يدوم إلى الأبد” كما قال سليمان الحكيم، أفعالك وكلماتك يتبعونك أينما ذهبت. نحن ندعو بالرحمة لأشخاصٍ فارقونا فقط لأننا نتذكر أفعالهم وكلماتهم العظيمة، نطلب لهم الرحمة لأن ذكراهم في قلوبنا عزيزة. ونستحي جداً إن جاء في حديثنا شخص لم تكن أفعاله شاهدة له، نرتبك إذ أن ذكراه تعيد إلينا ذكريات حاربناها كثيرا ولكن الذكريات لا تموت.

الذكريات لا تموت وبُكاؤك يزيدها قوة، دموعك لا تطفئ النار المتقدة بل تزيد من شعلة الذكريات. لا تبرز ضعفك وبرهن صلابة الذكريات السعيدة التي لديها المقدرة أن تطرد التعيس منها.

بمقدور المرء أن يحول الذكرى الحزينة إلى ذكرى تطيب له خاطره وتُكَلل في عقله ارتياحاً سرمدياً. إنَ وردة الاثني العشر تختبر أول طمث لها وسط عيون مترقبة، انقباضات ودمٌ يزين سروالها، علامة على تفتح بذورها. آلامات جديدة تُشكل الكأس؛ هذا المحيط الزهري الخارجي المكون لبتلات عود جسدها، عادةً ما تكون الكأس سبباً للانجذاب. كالفخار تنقش الآلامات منحنياتها ببراعة رب قدير جعلها في سر خلقها.

ولكن النظرات والأحكام تجعل من هذه الآلامات ضعفاً لها وسبباً لانكسار عينيها وكأنها تعيش في باكستان حيث تكتم الأم علامات بلوغ ابنتها وعلامات الاستفهام تقتل أي براءة قد تمتلكها الفتاة.

ذكرى تغرس محبة أو كراهية لجسدها، “لي جسد أحترمه أو لي جسد أمقته”. تقبل الحدث بصدرٍ رحب ينشئ ذكرى سعيدة لحدثٍ مضى أضاف في تكوين الذات. “

تنهدت ونامت إذ أن حاضرها يمنعها من التفكير في الماضي، كل أركان ذاكرتها تتجدد يومياً بأحداث شتى، فلا تحتفظ بذكرى بعينها. حياتها ذكريات متجددة.